الجلابية البلدي.. تراث صنعته أنامل الأجداد والأحفاد

دعوة برلمانية لاعتمادها زيا رسميا للمصريين

الجلابية البلدي في مصر لها مريدوها ولها أيضاً صناعها المحترفون («الشرق الأوسط»)
TT

للجلابية البلدي تراث عتيق في ذاكرة المصريين، فلا تزال تمثل الزي الشعبي لأبناء القرى والفلاحين، وتلعب اليد المدربة الماهرة دور المايسترو في صناعتها بشكل بهي وجميل.. كل هذه العوامل وغيرها دفعت نائبا بالبرلمان لأن يقدم مؤخراً مشروعاً مثيراً للجدل باعتماد الجلابية البلدي زياً رسمياً للمصريين، مبرراً ذلك بأن الجلابية البلدي هي أهم ما جمع المصريين، حيث يرتديها أهل الصعيد وأهل الوجه البحري، والمسلمون والأقباط، والأغنياء والفقراء، على حد قوله.

في أجندة هذا التراث تقبع صورة الرئيس الراحل أنور السادات، وهو يرتدي الجلابية البلدي في قرية ميت أبو الكوم مسقط رأسه بمحافظة المنوفية، كما جعلها الشاعر أحمد فؤاد نجم رمزاً للوطن في إحدى قصائده الشهيرة، كما يحرص نواب برلمانيون على ارتدائها رمزاًَ لأصولهم الفلاحية.

تختلف الجلابية البلدي اختلافاً كلياً وجزئياً عن أي جلابية أخرى، لأن كل شغلها يدوي بالإبرة، ولا تستخدم فيها ماكينة خياطة. تنقسم الجلابية البلدي إلى البدن الأمامي والبدن الخلفي، ثم الأجناب، ثم الأشاتيك، وهي منطقة تحت الإبط ثم الأكمام، بالإضافة إلى القطان وهو حلية الجلابية، ويكون حول الرقبة والشريط ويتم حياكته في المكان نفسه، وكلاهما من الحرير الصافي.

صناعة الجلابية البلدي في مصر لها مريدوها ولها أيضاً صناعها المحترفون، بل إن هناك قرى بعينها في بعض المحافظات تشتهر بجودة صناعة الجلابية البلدي، ومن أشهر هذه القرى في الدلتا قرية «ساماتاي» في مركز قطور بمحافظة الغربية، و«منية سمنود» في الدقهلية، وفي سمنود توارث أبناء «حامد ندا» أشهر ترزي للجلابية البلدي، المهنة عن أبيهم، والذي ظل يعمل بها منذ عام 1937 حتى وفاته قبل عامين.

على صوت أم كلثوم جلس كلاهما منهمكا في عمله، «محمود حامد ندا»، وشقيقه «أحمد»، ورغم أنهما موظفان حكوميان، فالأول وكيل مدرسة إعدادية، والثاني موظف في الأزهر، إلا أنهما يعشقان هذه المهنة بشكل كبير، يقول «أحمد حامد»: «ورثت هذه المهنة عن والدي ومن غير الممكن أن أتركها، هذا أمر مستحيل، أحب هذه المهنة وأتباهى بها، والشيء الوحيد الذي من الممكن أن يفرقنا هو الموت».

«الجلابية البلدي كلها فن، من أول خطوة في عملها وحتى الخطوة الأخيرة»، كما يقول «أحمد» مؤكدا أنها «تختلف عن الإفرنجية في كل شيء، وتعتبر قيمة وتراثا وتمنح لابسها هيبة في المنظر، وتختلف عن أي ملابس أخرى»، وعن حياكة الجلابية يقول «محمود حامد»: «كل جسم له مقاس بدن يختلف عن الجسم الآخر، يتم قياس البدن وإضافة 10 سم له من الجانبين، بعدها يتم قص القماش على حسب المقاسات المختلفة لكل جسم، ثم نبدأ في خياطة الجلابية، وعمل الكفافة ـ خياطة الأطراف التي تمت خياطتها في الجلابية نفسها كي لا تظهر كأطراف وإنما كجزء من الجلابية ـ بعد ذلك يتم تصفية الجلابية على مقاس الرقبة بشكل نصف دائري ومفتوحة الصدر مسافة 30 سم، بعدها يتم تركيب القطان ثم الشريط وبعد ذلك المكواة».

الأكمام في الجلابية البلدي تُمكنك وبكل سهولة من تحديد هوية صاحبها فاتساع الكم يختلف من إنسان لآخر، حسب طبيعة عمله، فمن يعمل في الأعمال التي تعتمد على العمل الذهني أو من يلبسون الملابس الإفرنجية مثل القضاة والمستشارين والأطباء لا يلبسون الأكمام الواسعة، ويفضلون الأكمام العادية التي تكون قريبة من أكمام البدلة مثلا، وبهذا يمكن أن تفرق بينهم وبين الفلاح الذي يلبس الأكمام الواسعة، وذلك لأن الفلاح يحب الملابس الواسعة في كل الأحوال، أما متوسط اتساع الكم فيكون من نحو 27 إلى 28 سم، أما الكم الواسع فهو من 31 إلى 32 سم، ويصل في بعض الأحيان إلى 35 سم.

ومثل الملابس الأخرى، للجلابية البلدي أيضاً معايير الشياكة الخاصة بها، ويرجع ذلك إلى لونها وخامة القماش المصنوعة منه، ورغم أن الصوف هو الخامة المفضلة لصناعة الجلابية إلا أن هناك أنواعا مختلفة من الصوف، والعرف المعتاد لدى الترزي العربي هو أن يقوم الزبون بشراء القماش الذي يريده بنفسه، أو يذهب للترزي لاختيار القماش المناسب له، إلا أن مواصفات القماش يحكمها قبل كل شيء المستوى المادي للزبون، وأجوده الصوف الإنجليزي الذي يبلغ سعر المتر الواحد منه 300 جنيه، وكذلك صوف الجوخ الإيراني، والذي تصنع منه أغلى أنواع الجلابيب البلدي في مصر، ويصل سعر الجلابية البلدي المصنوعة من هذا الصوف إلى 1000 جنيه للجلابية الواحدة.

الكتان يعد هو الآخر أحد الأقمشة التي تصنع منها الجلابية البلدي أيضاً، كما يقول «محمود حامد»، الذي يضيف «من الممكن صناعتها من الكتان، وهي الجلابية البلدي البيضاء، وهي أغلى من الجلابية الصوف المعتادة، حيث يصل سعر متر الكتان إلى 60 جنيها، وتقتصر على الصفوة، والجلابية الكتان لها مريدوها، ومن يلبسها يعد أحد هؤلاء الذين يفهمون جيداً في الجلابية البلدي».

ويلفت محمود حامد إلى أنه من معايير الشياكة أيضاً في الجلابية البلدي «ألا يكون لها جيوب (أو سيالة بحسب تسميتها الشعبية) لأنها تخل بميزان الجلابية، بالإضافة إلى ياقة الجلابية ودوران الرقبة بما فيهما شغل القطان والشريط، ففيهما يظهر مدى حرفية الترزي، فإذا قلب طرف الدوران فإن ذلك يدل على أن الترزي غير جيد، كما أنه من الضروري لبس صديري بلدي تحت الجلابية لأنه يضبطها ويمنح لابسها منظراً جيداً، لأنها مفتوحة من على الصدر مسافة 30 سم، ويصنع الصديري من قماش الدبلان أو القطن، والبعض يفضل أن يكون قماش الصديري من نفس نوع ولون القماش المصنعة منه الجلابية إلا أنه لا يفضل ذلك».

القطان والشريط الملفوفان حول الرقبة، وفي أسفل الجلابية يميزان أيضاً الطبقة التي ينتمي إليها من يرتدي الجلابية البلدي، فبينما يكتفي الفلاح بفرد قطان واحد حول الرقبة وبدون شريط، يطلب البعض عدد 3 قطان وذلك لأن القطان يباع بالجرام وهو أنواع أغلاها «الباروتي» الذي يصل سعر الكيلو الواحد منه إلى 600 جنيه، والنوع الآخر «ضد الكلور» وسعر الكيلو 70 جنيها، أما النوع العادي فيصل سعر الكيلو إلى 50 جنيهاً، والشريط أيضاً من نفس الأنواع السابقة ويباع بالياردة حيث يصل سعرها في النوع الأول إلى جنيه، والثاني 60 قرشا، والثالث 50 قرشاً».

ولما كان لكل مهنة أو حرفة أدواتها الخاصة بها، فإن الترزي العربي أيضاً له أدواته التي لا يمكن أن يستغني عنها، وهي المقص، والمشبك أو المسند، وهو عبارة عن قطعة من القماش المستطيل به مشبك في نهايته يشد به الترزي العربي الجلابية التي يقوم بخياطتها، وأيضاً الإبرة السنيورة كما يطلقون عليها، وطولها نحو 2.5 سم، لا يزيد ولا يقل عن ذلك، ورفيعة جداً، بالإضافة إلى الكستبان (ويطلقون عليه الشغال) ويلبسه الترزي في إصبعه ومن دونه لا يستطيع أن يعمل الترزي بالإبرة، وأيضاً قطعة شمع عسل نحل، كيلا تلف الخيوط على بعضها البعض، وكيلا يكون بها شوائب، وكي يتم تثبيت الخيط.

وعن أهم الصفات التي يجب أن يتمتع بها الترزي العربي المتخصص في الجلابية البلدي يقول «أحمد حامد»: «الصبر والدقة في العمل من دون أي إهمال، لأن كل شيء في هذه المهنة يدوي، وإذا حدث أي خطأ مهما كان صغيرا يتم فك الجلابية وهذا لا يقلل من شأن الترزي، ولكنه يكسبه احتراماً لنفسه، ولأن هذا أيضاً يعتبر قمة الدقة».

ورغم السنوات الطويلة التي قضاها «أحمد» في العمل مع والده، إلا أنه لم يقم بخياطة جلابية كاملة إلا منذ عامين فقط.. عن ذلك يقول «أحمد»: «تعلمت المهنة منذ الطفولة من والدي، قضيت كل حياتي معه كصنايعي، كنت أقوم بعمل كل الأساسيات والفنيات، وكان هو الذي يكمل صناعة الجلابية، عندما رحل والدي أصبحنا أمام الأمر الواقع، ولكننا أيضاً كنا نفهم كل شيء في صناعة الجلابية، فتولينا نحن الأمر وكانت أول جلابية أقوم بخياطتها كاملة بعد وفاة والدي، وكان عمري وقتها 35 عاماً».