مستشفى سرطان الأطفال في مصر.. دعوة متجددة للأمل

شيدته سواعد الخير واختير أحسن مشروع صحي في العالم

طفل مريض داخل غرفته («الشرق الأوسط»)
TT

ما إن تبلغ منحنى الطريق الواصل ما بين شارعي صلاح سالم وكورنيش النيل في العاصمة المصرية القاهرة، حتى يخطف بصرك شيء مختلف. لمن اعتاد القاهرة، كانت المنطقة في ما مضى، المذبح الرسمي للمدينة. أما اليوم، فقد صارت مذبحاً للمرض.

ورغم شكل المبنى الخارجي الحديث، لا يكاد الناظر يشعر بتنافره مع محيطه بمعالمه القديمة. الحديقة غاية في الروعة والبساطة تحيط بالمبنى الزجاجي الذي يقف شامخاً كأنه يتحدى أهوال المرض ومرارة الإحساس بالعجز. ثم يضاعف انتباهك لافتة أنيقة تحمل الاسم الذي يعتز به كل المصريين والعرب «57357.. مؤسسة مستشفى سرطان الأطفال».

خلف الباب الزجاجي، تفاجأ بأنك في منطقة تعقيم عازلة بين الباب الخارجي وآخر داخلي، وتستقبلك ابتسامات حانية بترحاب وأدب جم كائناً من كنت، مع سؤال صادق صادر من القلب: «أي خدمة أستطيع أن أؤديها لك؟» وفي الأروقة، تجد لوحات إرشادية لمختلف الوحدات، تعبر كل منها عن إهداء رقيق من أصحاب الأيادي البيضاء الذين تبرّعوا لبناء هذه الوحدات. الكل أفراداً ومؤسسات تعاونوا على إنشاء المستشفى وتحقيق الحلم. في وحدة الرعاية النهارية، تتحرّك فراشات بيضاء رقيقة بين الأروقة والأسرة، في تناسق وتناغم واضح للعيان وكأن هناك مايسترو خفيا لا يراه سواهم يحركهم باقتدار. صفاء أبو السعود، ممرضة شابة تخبرنا أنها بدأت العمل في المستشفى منذ ستة أشهر فقط، لكنها انسجمت في العمل كما لو أنها ولدت بالمكان. أما قبل أن تأتي إلى هنا، فإنها عملت لعدة سنوات بمستشفى قصر العيني الجديد المعروف في مصر باسم (الفرنساوي)، ورغم كونه أحد مستشفيات القمة من حيث الأداء العام والإمكانات البشرية والتقنية، تقول صفاء: «الأمر هنا في مستشفى الأطفال مختلف بحق، فهنا نتعامل مع فئة خاصة تحتاج إلى الحنان مع العلاج، والرحمة مع الدقة. فالأطفال المرضى هم الفئة البشرية الأكثر قدرة على تمزيق نياط القلوب». وهي تؤكد أن المستشفى يتمتع بخاصية متفردة على مستوى مصر كلها، هي التطوّر والتدريب المستمر. فكل فترة يوجد تدريب على أحدث التطورات العلمية على يد خبراء من مصر والعالم. والكل يخضع لمعايير الجودة، بدءاً من الأطباء والتمريض وحتى عمال النظافة والمصاعد. قصة مأساوية هي ما دفعت إلى ولادة فكرة إنشاء المستشفى. ففي بداية تسعينات القرن الماضي، كان الأطفال المرضى بالسرطان يعالجون بمعهد الأورام القومي. ولكن لنقص الإمكانيات المطلوبة، تزايدت نسبة الوفيات بين الأطفال حتى وصلت إلى 13 طفلا في يوم واحد.. وسط شعور قاس بالعجز يعتصر القلوب. ثم واتت الفكرة البروفسور شريف أبو النجا، نائب مدير مستشفى سرطان الأطفال الحالي، مع فريق من المتطوعين لإنشاء مستشفى خاص بالأطفال المرضى قائم على التبرعات من ذوي القلوب الرحيمة.

وبعد بضعة لقاءات مع مسؤولي جامعة القاهرة، ومحافظة القاهرة وبعض رجال الأعمال، تبلورت الفكرة أكثر وبدأت بوادر المشروع في الظهور إلى النور. وشملت سيدة مصر الأولى السيدة سوزان مبارك المشروع برعايتها وجعلته من أولوياتها، فدعت رجال الأعمال المصريين والعرب للتبرع للمشروع. وتحمّس الكثيرون من أبناء الأسر المالكة العربية وساهموا بتجهيز المستشفى، كما أسهم المصريون غنيهم وفقيرهم بالتبرع ولو بقروش بسيطة يقتطعونها من قوت أيامهم، ليصار إلى افتتاحه مبدئياً في السابع من يوليو (تموز) 2007، مع استمرار عملية استكمال التجهيزات والتوسعات. وفي مايو (أيار) 2008 حصل المستشفى على جائزة منظمة الصحة العالمية «لأكثر مشروع صحي تأثيراً» في العالم. وفي أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، وقّع القائمون على العمل في المستشفى بروتوكول تعاون مع مستشفى 99199 السوداني يتضمن تدريب الكوادر السودانية على استنساخ التجربة المصرية.

من أهم ما يميز المستشفى أنه مشروع ناجح بكل المقاييس. ففي الأشهر الثمانية عشرة الأولى بعد افتتاحه استقبل نحو 3000 مريض من داخل مصر وخارجها، عولجوا جميعاً بالمجان. ومن المتوقع أن تصل الطاقة العلاجية للمستشفى إلى 2500 حالة سنوياً، وهو ما يعتبر من أعلى النسب العالمية لاستقبال حالات سرطان الأطفال. كذلك يهدف المستشفى للوصول إلى نسب الشفاء العالمية من مرض السرطان التي تبلغ نحو 80% من عدد الحالات.

في الواقع، يجسّد مشروع المستشفى سيمفونية فريدة من العطاء، تعزفها كل يوم سواعد التبرعات الخالصة. فهو مشروع مستقل تماماً عن الحكومة أو القطاع الخاص، يثبت دوماً أن أهل الخير قادرون على فعل المعجزات. «فمن خلال التبرعات المادية المباشرة في البنوك المختلفة للحساب الرقم 57357، الذي جرت تسمية المستشفى باسمه، إعلاءً لقيمة التكاتف، أو من خلال شراء الأجهزة المختلفة التي تحمل لافتات أبدية بأسماء من أهداها للمستشفى، أو تبرّع الوقف الخيري الذي يتمثل في وضع اسم شخص على إحدى الوحدات مدى الحياة نظير مبلغ شهري. أيضاً، إلى جانب التبرّع العيني في مجالات التدريب والأبحاث وخدمة الأغراض العامة بالمستشفى، أو عن طريق تمويل العمليات والاستشاريين العالميين في زيارتهم الدورية للمستشفى. كل هذه وسائل وطرق تساعد في شفاء أطفال يحملون بسمات الأمل على وجوههم، ووجوه ذويهم الذين كاد اليأس يفتك بهم قبل أن يفعلها المرض القاتل.. كل هذه حقيقة» كما يؤكدها لنا أحد مسؤولي المستشفى، مع تذكيرنا بأن المشروع بحاجة دائمة إلى نهر العطاء الجاري من التبرعات لكي يتمكن من خدمة أكبر عدد ممكن من أطفال مصر والوطن العربي وأفريقيا.

وحقاً، يزور المستشفى دائماً كبار الشخصيات العالمية، من ملوك ورؤساء وعلماء وأطباء كان منهم، على سبيل المثال لا الحصر، الملكة صوفيا ملكة إسبانيا والأمير فيليب ولي عهد بلجيكا، وزوجات رؤساء كل من بولندا وتركيا وأرمينيا وقبرص، بالإضافة إلى عدد من كبار الكوادر الطبية والجراحية العربية والعالمية. وقبل أن نترك صفاء لعملها، قالت: «أتمنى أن يأتي اليوم الذي نتغلب فيه على مرض السرطان، ولا يحتاج هؤلاء الملائكة الصغار إلى خدماتي أو خدمات غيري، وفي هذه الحالة سأكون في قمة السعادة، وأنا أجلس في بيتي الصغير، بضمير مرتاح ونفس صافية».