بيت فخري البارودي بدمشق يتحول إلى معهد للحفاظ على المدن التاريخية

تجاوز عمره 200 سنة وشكّل في النصف الأول من القرن العشرين منتدى ثقافيا وسياسيا

بيت البارودي وأعمال الترميم فيه («الشرق الأوسط»)
TT

في وسط مدينة دمشق وفي منطقة يعود تأسيسها إلى أكثر من ألف عام حيث تلامس سور المدينة القديمة وما داخله من أماكن عريقة في هذه المنطقة التاريخية المسماة (القنوات)، وفي هذه المنطقة وفي واحد من أجمل وأقدم بيوتها التقليدية تعمل أدوات المعماريين المرممين على إعادة الحياة إلى بيت فخري بك البارودي، السياسي المناضل والمفكر والمثقف الدمشقي الشهير الذي عاش في هذا البيت في النصف الأول من القرن العشرين وحتى وفاته في منتصف الستينات من القرن المنصرم وحوله إلى منتدى ثقافي موسيقي جمع فيه كل أعيان دمشق وذواقي الفن فيها.

واشتهر البارودي أيضا بدعمه لثوار غوطة دمشق ضد الفرنسيين وسجن أكثر من مرة بسبب مطالبه الوطنية، كما كانت تنطلق المظاهرات ضد الفرنسيين من هذا البيت.

وبعد الجلاء جمع في منزله الكثير من الشعراء والكتاب، وكتب هو القصائد الشعرية الوطنية وخصص إحدى قاعات البيت الواسعة لتكون مقرا للشعر والموسيقى وإقامة الأمسيات الفنية فيها بشكل يومي.

والبيت الذي سكنه البارودي لسنوات طويلة يعتبر من أجمل بيوت دمشق التقليدية خارج السور، ويعود تاريخ بنائه إلى أكثر من 200 عام، وهو مبني على الطراز العثماني ويتميز باتساعه ولمساته المعمارية الجميلة. وقد تم استملاكه من قبل الحكومة السورية قبل عدة سنوات، وأعطي لكلية العمارة في جامعة دمشق لتقوم بترميمه وتحويله بعد إنجاز الترميم إلى مركز للدراسات والتوثيق المعماري.

وحول الأعمال الجارية في الترميم قال الدكتور موفق دغمان المشرف على أعمال الترميم إن البيت ينقسم إلى ثلاثة أقسام كحال البيوت المهمة في دمشق، وهي السلاملك والخدملك والحرملك. وكان قد سكنه والد فخري البارودي ولكنه يعود إلى عائلة أقدم. وقام والده بإنجاز الكثير من أعمال الإصلاح في البيت، وتم بداية القرن العشرين إعارته من قبل والد البارودي الذي انتقل للسكن في غوطة دمشق (منطقة دوما) لوالي دمشق العثماني ناظم باشا، والذي سكنه سبع سنوات ريثما ينجز قصره الذي بني في حي المهاجرين الدمشقي وجمع فيه وجهاء دمشق، ومن هنا تأتي أهمية البيت، ليس فقط معماريا، بل ومن الناحية المعنوية حيث شهد الكثير من الحوادث التاريخية الهامة جعلته يأخذ مكانة كبيرة في دمشق، وكانت تصدر منه أهم القرارات التي تنظم العمل في البلد. وبعد وفاة البارودي آلت ملكيته إلى عائلة بيضون والتي حولته إلى مطبعة رسمية باسم ابن زيدون، وظلت المطبعة قائمة حتى نهاية سبعينات القرن الماضي، وبعدها تنبهت السلطات المحلية إلى أهمية البيت واقترحت موضوع استملاكه لغايات ثقافية واستملكته فعلا محافظة دمشق. وبقي في عهدتها حتى قامت جامعة دمشق وكلية العمارة فيها وبقصد حماية المواقع التاريخية بطلب من محافظة المدينة تخصيصها بالبيت على أن تقوم الجامعة بدفع بدلات الاستملاك. وتم تحويله إلى مركز تعليمي لطلاب الدراسات العليا قسم الحفاظ على المدن التاريخية (شايو) بالتعاون مع الجامعات الفرنسية، واستخدمت إحدى قاعاته لهذا الغرض.

ويتابع دغمان: «وفي الفترة الأخيرة كلفتني الجامعة بوضع دراسات لإصلاحه وإعادة تأهيله وترميمه، حيث كان وضعه المعماري سيئا بسبب الإهمال الذي عانى منه البيت وجعله مكانا أكاديميا يصلح لعمليات التعليم والوظائف المتنوعة كالمعارض والحفلات وغيرها».

وسيكون مقرا لمعهد الحفاظ على المدن التاريخية بعد الانتهاء من عملية الترميم. وستخصص القاعة الرئيسية الجنوبية والتي كانت قاعة الاستقبال الرئيسية (وكان والي دمشق يجلس فيها) لعرض مقتنيات ومؤلفات وما تركه فخري البارودي في ذاكرة عائلته والمجتمع الدمشقي بشكل عام.

بوشرت أعمال الترميم قبل نحو عام من قبل فنيين ومهندسين مختصين، وسينجز بشكل كامل بعد نحو سنتين إذا سارت الأعمال بالشكل المطلوب، خصوصا أن هناك معاناة في عدة أمور لازمة للترميم، ومنها الحصول على مواد الترميم القديمة كالخشبيات وتوفر الحرفيين اليدويين، حيث ستكون هناك أعمال كثيرة معمارية وتقنية حتى يلبي جميع الأغراض العلمية والثقافية، حيث تتضمن الأعمال ثلاث مراحل تشمل البنية الإنشائية والمعمارية من نوافذ وخشبيات وأسقف وسواها، ثم أعمال الترميم الدقيق من ترميم اللوحات الجدارية والتزيينات الفنية.

ويتميز البيت باتساعه حيث يقع في طابقين وتبلغ مساحته الإجمالية 1800 متر مربع، ما يرمم منها حاليا 900 متر مربع، والتي تضم قسمي السلاملك والخدملك ويضمّان 20 غرفة. أما الحرملك فيقع في الجهة الجنوبية من البيت ومستقل عنه ولم يستملك، حيث توجد جمعية خيرية تشغله منذ سنوات طويلة. ويضم البيت أواوين وفسحات سماوية وقاعات داخلية واسعة وبحرات وطوالع مياه. كذلك ما يميز عمارة البيت أنها خليط من الطرز المعمارية العربية والأوروبية، أي يحمل مجموعة من السمات التي تراكمت خلال العصور، فهو بيت تقليدي من الناحية الإنشائية كما أنه استلهم من الفنون الأوروبية زخارف ورسومات ما زالت موجودة في قاعاته.

من جهته قال المهندس أحمد السمان، وهو مقاول مشروع ترميم البيت البارودي: «في أثناء أعمال الترميم حصلت بعض الاكتشافات الأثرية التي لم تكن معروفة في البيت ومنه في قسم الخدملك حيث وجدنا غرفة مونة مبنية تحت الأرض ووجدنا بئرا قديمة وفي الفسحة السماوية الخلفية وجدنا فتحات قوسية».

تتحدث المصادر التاريخية أن فخري البارودي الذي ظلّ عازبا طيلة حياته كتب الكثير من الأناشيد الوطنية، ومنها: «بلاد العرب أوطاني.. من الشام لبغدانِ.. ومن نجد إلى يمنٍ.. إلى مصر فتطوانِ».

وتقول هذه المصادر أن أمير الشعراء أحمد شوقي عندما زار دمشق في عام 1928 وكان برفقته الموسيقار محمد عبد الوهاب دعاه فخري البارودي إلى منزله مع نخبة من الموسيقيين والشعراء، وقد كلف البارودي الموسيقار عبد الوهاب بتلحين النشيد المذكور فطلب عبد الوهاب من البارودي أن يستبدل كلمة تطوان بغيرها فاعتذر البارودي قائلا له إن تطوان هي بعض حدود بلادنا العربية ويستحيل تغييرها، فابتسم عبد الوهاب وقال: «طيب إنت فاكرني يا فخري بيه ملحن جغرافيا؟»، ورفض عبد الوهاب تلحين النشيد. وللبارودي الكثير من المؤلفات، كما أصدر جريدة ساخرة سماها «حط بالخرج».