مكفوفون يتلمسون علوم الآثار بالمتحف المصري وينيرون الطريق لآخرين

تجربة شهد لها العالم

أطفال مكفوفون يتعرفون على آثار حضارتهم بأناملهم («الشرق الأوسط»)
TT

على مدى ما يقرب من قرن مارس المتحف المصري الرابض بميدان التحرير في وسط القاهرة، دورا تنويريا مشهودا. فهو مجمع لكنوز الآثار المتراكمة عبر السنين وملتقى لمريدي الثقافة والفن. لكن اليوم يعلن عن دور جديد يعلي من قيمته ويزيد من ثقله.

فمن بين عاشقي الآثار ودارسيها اليوم بين جدرانه، من الممكن أن ترى كفيفا، يدرس أسرار الآثار عبر تلمسها بيديه، ينصت لدروسها في صفوف مدرسة المتحف المصري، وقد يصبح خبيرا يدرسها لغيره.

«الشرق الأوسط» رصدت تفاصيل انتظام المكفوفين في صفوف مدرسة المتحف المصري لتعليم الآثار وعلومها، وهي المدرسة التي تضم إلى جانب الطلاب المكفوفين، محاضرين مكفوفين أيضا، شكلوا بانتظامهم جميعا تجربة استدعت ثناء دوليا مشهودا. تقول الدكتورة وفاء الصديق، مديرة المتحف المصري عن فكرة المشروع: «ذات مرة كنت في زيارة لمتحف في ألمانيا خلال فترة إعدادي لأطروحة الدكتوراه وهناك رأيت أسرة ألمانية تزور متحفا، وكان كل أفراد الأسرة يستمتعون إلا شابا واحدا وقف بعيدا لا يشاركهم هذه المتعة لكونه كفيفا. ظل هذا المشهد في مخيلتي كثيرا، وأخذت عهدا على نفسي بأن أصنع لهؤلاء المكفوفين شيئا يمكنهم من خلاله الاستمتاع برؤية الآثار، وبدأت أعرض الأمر بعد عودتي على مسؤولي المتاحف فلم يبدوا أي حماس للفكرة، حتى توليت أمر المتحف المصري فكانت تلك القضية على رأس أولوياتي».

وتضيف: «مشروع التربية المتحفية للمكفوفين على الرغم من صعوبته، فإنه ثري بالمعلومات للغاية، ويوفر لهم التعرف على الحضارة المصرية القديمة، وأتاحت إدارة المتحف حروفا للغة الهيروغليفية مجسمة، مصنوعة من الخشب للاستعانة بها في الشرح، فيلمسها المكفوفون، وعبرها يتم إعداد دليل كامل زاخر بالمعلومات على امتداد موسم دراسي كامل».

وبحسب الصديق، فإن فريق العمل بالمدرسة يحرص على تقديم أسرار الفراعنة للمكفوفين والمبصرين على السواء بالشرح، إلا أن التعامل مع المكفوفين يكتسب أهمية خاصة، حيث يتم تدريبهم بمختلف البرامج للتعرف على تاريخ وحضارة مصر عبر العصور، وهى الخدمة التي اعتبرتها مجلة «دير شبيغل» الألمانية إحدى الخدمات القليلة التي تقدمها المتاحف الكبرى في العالم.

ونتيجة للإعجاب الدولي بالفكرة أهدت الجمعية الدولية لحماية التراث مدرسة المكفوفين آلة كاتبة بطريقة «برايل». ويعتمد مشروع التدريس على كتابة أوراق عمل خاصة باللغة الهيروغليفية وطبعها بطريقة «برايل» لتوزيعها على الطلبة والطالبات والاستعانة بالنماذج الأثرية التي تم توفيرها بالمتحف ليلمسها الدارسون، بالإضافة إلى التعرف عليها أثناء إعداد الزيارات في داخل قاعات المتحف. وتسهم هذه الزيارات في تعرف المكفوفين على الحضارة المصرية القديمة من خلال لمس تماثيل الملوك والخراطيش الملكية ولمس الحروف الهيروغليفية على التوابيت، مما يساعد على استيعابها وتخيلها في الذاكرة.

وطبع مسؤولو المتحف المصري العديد من الكتب الخاصة بالحضارة المصرية القديمة لتكون نواة لمكتبة خاصة بالمكفوفين، فيما أهدت مكتبة المكفوفين بالمتحف اليوناني بالإسكندرية بعض المطبوعات إلى مدرسة المكفوفين بالمتحف المصري ووصل عدد الكتب التي تقتنيها إلى 15 كتابا و90 شريطا (كاسيت).

وأشارت رشا كمال، إحدى المحاضرات في المدرسة وتعد لأطروحة دكتوراه، إلى وجود تعاون بين المدرسة والمركز النموذجي للمكفوفين بمصر، لعقد معظم الورش بالمركز باستضافة مدارس «النور» و«الأمل» (بنين وبنات)، إلى جانب إقامة ورش خاصة بالتأهيل المهني.

ويشارك بعض المكفوفين المتطوعين في البرنامج، ويقول أحمد نجيب محمد، وهو حاصل على ليسانس آداب بقسم التاريخ، إنه يساعد التلاميذ من المكفوفين في تلمس النماذج ومحاولة قراءة النقوش المكتوبة عليها، مؤكدا على أن إسهام المكفوفين في البرنامج أعطى المتدربين من المدارس الثقة في أنفسهم إذ يقوم بتدريبهم مكفوفون مثلهم.

وتشير نجوى إبراهيم عبد المقصود، إحدى المتطوعات، إلى أنه يتم توزيع المتدربين من تلاميذ المدارس حسب أعمارهم على المتطوعين ليقوموا بالشرح لهم، كما يسهم المتطوعون في نسخ الكتب بطريقة «برايل»؛ فبحسب قولها، فإنها أسهمت في نسخ كتاب عن آثار «أبو سمبل» وآخر عن متحف المجوهرات الملكية بالإسكندرية.

وحرصت إدارة المتحف على توفير مجلة دورية بعنوان «الأصول» تمت طباعتها بطريقة «برايل»، ونسخت أيضا للمبصرين، وتضم معلومات عن أصول الحضارة المصرية والآثار التي لا يتاح للمكفوفين لمسها مثل محتويات متحف المجوهرات الملكية.