«كونيست».. مقهى يعيد رائحة التنوير لأمسيات القاهرة

شعاره «لوحة وكتاب وفنجان قهوة»

اختار وسام هاشم اسم «كونيست» لعدة اعتبارات، أولها أن الكلمة «kunst» تعنى «فن» في لغات كثيرة أبرزها الألمانية والدنماركية والنرويجية والسويدية والهولندية («الشرق الأوسط»)
TT

«أنا وسام هاشم.. صديق الفسائل في البرية.. والشحاذين في الشوارع.. والجنود في الثكنات الحزينة».. هكذا كتب الرجل مقدما نفسه في قصيدة عنوانها «الوعل»، خطها من منفاه في الدنمارك، قبل أن يأتي إلى القاهرة، ليحول فترة شتاته بعيدا عن بغداد إلى لحظات من المتعة، تعيده إلى شهوة البدايات، وتصبغ منفاه بلون الحلم، وتضيف إلى قائمة أصدقائه من الشحاذين والجنود والفسائل البرية فنانين ورسامين ومبدعين، اجتمعوا في مقهاه «كونيست» الفريد، الذي حوله من محل للملابس بشارع شريف إلى نقطة ضوء تعيد رائحة التنوير لمقاهي القاهرة وأمسياتها.

يتخذ «كونيست» شعارا يقول: «لوحة وكتاب وفنجان قهوة»، فهو ملتقى دائم لمعارض التشكيليين، يعرضون أعمالهم لخمسة عشر يوما متصلة على جدرانه، ويستضيف أمسيات شعرية أسبوعية لكبار الشعراء وشبابهم، إلى جانب حفلات التوقيع للكتب الجديدة، وعلى مناضده يتهامس النزلاء مع كتبهم المتاحة للقراءة مجانا، أو برفقة أصدقائهم يتبادلون الأفكار على وقع دخان القهوة الساخن، بل إن هناك من صادق المناضد وعانقها بفرشاته ليضفي عليها جمالا خاصا يقترن بإمضائه.

بين المقاعد ترى وجوها مألوفة أو أخرى شابة تبحث عن نقطة ضوء تزيح أتربة الزمن من فوق موهبتها، موسيقيين وسينمائيين وكتابا، ومتذوقين لطعم الموهبة، وقراء ذهبوا إلى هناك من أجل عنوان نادر يبتاعونه أو يقرؤون صفحاته مجانا.

صاحب المكان وسام هاشم، وهو كاتب وشاعر عراقي كان مديرا لتحرير صحيفة «الجمهورية» العراقية قبل أن يهرب أواسط التسعينات إلى الأردن، ومنها إلى الدنمارك ليؤسس هناك صحيفة «المشهد» لثلاث سنوات، ويبث آهاته عبر صفحات الحياة، وهناك كتب سيرته الذاتية بالدنماركية، بعنوان «رئيس تحرير من بغداد: سرد عن حياتي في الجحيم».. والتي تتناول قصة هروبه من العراق وحياته في المنفى، وعندما أراد أن ينقلها إلى العربية اتفق مع الراحل الشهير مدبولي، وجاء بالفعل إلى القاهرة لإتمام مشروعه لكنه فوجئ بمرض مدبولي، أحد أشهر وراقي العرب، ثم وفاته، وتطلب ذلك استقراره لبعض الوقت في القاهرة فراودته فكرة مقهاه الحالي.

يقول هاشم: «القاهرة مدينة تتحمل الظاهرة الثقافية.. فمن الممكن إذا خطوت عشرين مترا فيها أن تصادفك عشر جنسيات مختلفة.. فهي مدينة كوزموبوليتانية ثرية.. تعج بعشرين مليون نسمة، ومستوى الأمان والحرية فيها مرتفع للغاية، وهما ميزتان فضلاها عن دمشق وبغداد اللتين تتمتعان بثراء مماثل، بالإضافة إلى أن وسطها الثقافي مسطح وقابل للتفاعل مع الظواهر الجديدة».

اختار وسام هاشم اسم «كونيست» لعدة اعتبارات، أولها أن الكلمة «kunst» تعنى «فن» في لغات كثيرة، أبرزها الألمانية والدنماركية والنرويجية والسويدية والهولندية، كما أن الوقع الصوتي للاسم مميز للغاية بحسب رأيه كمتخصص في اللغويات، إلى جانب كونه لفظا أعجميا يتماشى مع الحداثة ويخاطب الأصوات الأجنبية التي هي جزء من شريحته المستهدفة.

يشدد هاشم على أنه نجح في تحقيق حلمه فيقول: «تكلف المكان أموالا غير قليلة.. وكان يحقق خسائر مادية لفترات، لكنني كنت أشعر أنني أؤدي عملا ساميا يستحق التضحية.. وبمرور الأشهر أصبح مشروعا ناجحا بالمعايير الاقتصادية، بل إن نشاطا كبيع الكتب لم أكن أتصور أنه سيحقق كل هذا الرواج.. فقط منذ أيام تعاقدت على ثلاثة آلاف عنوان جديد من دار المدى لبيعها للزبائن.. وقبل حسابات الأرقام يكفي أنني حققت حلمي.. واكتسب المكان شخصية مميزة.. كل من يدخله يصبح صديقي، وبيننا جسور إنسانية تعلو تدريجيا.. أهتم كثيرا بالشباب وأراهن عليهم، فهم يضيفون إلى المكان حيوية ونشاطا ومعهم أعود شابا يافعا».

يتمنى هاشم أن يخطو آخرون خطواته وينافسوه في افتتاح مقاهٍ شبيهة بـ«كونيست»، لأن المنافسة برأيه ستدفعه إلى التفكير والتميز، وسيخلق ذلك مناخا راقيا يخدم الفن والثقافة والإبداع. زاد الإقبال على «كونيست» كبؤرة تنوير، وفي طرقاته تختلط اللهجات واللغات، كما يفتح ذراعيه لكل المواهب.. فبحسب عدي حافظ، وهو مدير المكان، على قائمة الانتظار ما يقرب من 12 فنانا تشكيليا منهم 2 ألمان و2 إنجليز وفنان صيني، إضافة إلى العرب والمصريين، فقدم مثلا الفنان التشكيلي إبراهيم البريدي معرضه القائم على لوحات مصنوعة من الخيش تحاكي أوبريت «الليلة الكبيرة» للراحلين صلاح جاهين وسيد مكاوي. ويحضر بانتظام العراقي خضير ميري ليلقي أشعاره، كما تصدح أنغام الفرق الموسيقية الشابة في جنباته مثل فرقة الجميزة، بينما يقبل عليه العرب، خصوصا العراقيين، كقبلة تجدد حميمية الوطن.

يقوم على خدمة المبدعين ثلاثة أشخاص، إضافة إلى عدي، لا تقتصر مهامهم على العمل اليومي، بل أيضا التفكير في ابتكار الجديد، فهم من الآن يفكرون في استضافة أعمال فنية تتفاعل مع مناسبات عيد الحب أو الكريسماس.

يقول وسام هاشم في قصيدته اليائسة عن نفسه: «عندما يحلم بالرحيل.. يدخل سجونا كثيرة.. الحرب التي لا يحبها يتزوجها.. والحرب التي تحبه يتزوجها.. يتناسلان.. أطفالهما ديون ودم ومجنزرات».

لكنه ترك السجون وتمرد على الحروب وأفلت من براثنها.. ليتقلب على جنبيه وسط نور القاهرة.