فطائر «البيتا».. لمواجهة الأوضاع المعيشية الصعبة في البلقان

المواطنون يعودون إلى طعامهم التقليدي لتخفيف أعباء الأزمة المالية

صليحة وسميرة أثناء العمل في البوريكجينيتسا
TT

أمام الأزمة المعيشية الناجمة عن الأزمة المالية العالمية، وجد البلقانيون الحل الأمثل في العودة إلى تراثهم. ففي التراث، ولا سيما، الأطعمة التقليدية ومنها الفطائر اللذيذة التي يطلقون عليها اسم «البيتا» تحل المشكلة الغذائية. و«البيتا» تنطوي على تنوّع غني، إذ يمكن حشوها بالسبانخ وعندها تعرف باسم «زيليانيتسا»، أو بالبطاطس وإذ ذاك يطلقون عليها «كرومبيروشا»، أو بالقرع فتصبح «تيكفانياتشا»، أو باللحم المفروم أو القطع الصغيرة جدا منه.. وبذا تصبح «بوريك». عبد الباري، الذي فقد عمله بسبب الأزمة المالية وكان قد تزوّج لتوه، يذكر لـ«الشرق الأوسط» أن زوجته طلبت منه أن يهون عليه ولا يهتم بذلك. وأضاف «طلبت مني أن أشتري لها كيسا من الدقيق وكيسا من البطاطس ولم تطلب مني مصروف شهر كامل». وضع كهذا كان سمة الحياة البسيطة والمتواضعة التي ساعدت أهالي البلقان، ولا سيما البوسنة والهرسك، في تدبير أمور حياتهم أثناء الحروب، ومنها «حروب الإبادة» التي تعرض لها البوشناق والأرناؤوط الألبان في حقبتي 1992 ـ 1995 و1998 ـ 1999. وعندما بدأت الأزمة المالية تكشر عن أنيابها متسببة في بطالة عالية بين الناس، اندفع عشرات الآلاف إلى الاعتماد في قوتهم على «البيتا» كحل صحي ورخيص الثمن. وتقول الأرملة صفية «لقد توفي زوجي باللوكيميا منذ سنتين، ولي ابنة متزوجة ولديها طفلان، وابن عمره 25 سنة متزوج ويعيش في بيت مستقل، ولم يبق معي سوى ابنتي البالغة حاليا 15 سنة، وهي تدرس، وعليّ أنا التكفل بمصاريف البيت من مرتب تقاعد زوجي البسيط الذي أحصل عليه. ولذا تعتبر فطائر (البيتا) وجبتنا الغذائية الرئيسة يوميا». وعما إذا كانت قد ملت منها، أجابت «لا نمل من (البيتا).. ولكن ابنتي تذهب عند أختها أحيانا لتغيّر من غذائها ولو لمرة في الأسبوع». وتذكر صافتا (37 سنة) أن زوجها يعمل ميكانيكيا في إحدى الشركات، ولديهما 4 أطفال، وتقول: بالكاد يسد الراتب بعض الاحتياجات، فضلا عن شراء سيارة جديدة بدل السيارة القديمة من نوع «لادا». المرتب لا يكفي ولذا نضطر لشد الأحزمة قليلا لكي نستطيع التكيّف مع الراتب الزهيد الذي يتلقاه زوجي. ولكوني ربة بيت لا أعمل لا بد لي من أن أساعد العائلة بأي طريقة ممكنة، لذلك نكتفي بإعداد «البيتا»، وأحيانا الفاصوليا والملفوف (الكرنب)». وللعلم، تعد الفاصوليا ـ أو اللوبيا وفق تعبير سكان المغرب العربي، أو «الكراه» و« الباصوليا» كما يسميها البلقانيون، وكذلك الملفوف ـ أو الكرنب ـ الذي يسميه أهل المنطقة «كوبس»، من الأصناف زهيدة الكلفة. ولذا وجد البلقانيون فيها ملاذا من الجوع وتدهور الأحوال المعيشية. فأسعار هذه الخضار والبقول رخيصة مقارنةً بالأصناف الأخرى ومفيدة من الناحية الصحية. ولا يتطلب إعداد «البيتا»، بمختلف أنواعها، سواء بالسبانخ أو البطاطس أو القرع أو اللحم ما يوجع الميزانيات المتواضعة. وفي حين يحتاج إعداد فطيرة «البيتا» لكمية قليلة الدقيق والملح مع ما يضاف إليهما، فإن «الباصوليا» أو «الكوبس» فلا يحتاجان سوى لكمية من الماء والملح. ففقراء البلقان، بل وحتى بعضن القادرين ماليا، يفضلون أحيانا هذه الوصفات السهلة والخالية من التوابل والإضافات الأخرى. وأحيانا يضعون قطعا صغيرة من لحم البقر المجفّف، الذي يشبه القديد في المنطقة العربية لكنهم يستخدمون النار بدل أشعة الشمس، ويسمونه «سوهو ميسو». كما أنهم يعدون الجبنة بالطريقة ذاتها ويسمونها «الجبنة المدخنة»، وبلغتهم، «ديمسكي سير». ولأن أسعار هذه المأكولات رخيصة فقد افتتحت لها مطاعم خاصة. كما تحول بعض المطاعم التقليدية إلى إعداد وبيع هذه المأكولات.. وتسمى المطاعم التي تقدم الفطائر المحشوة «بوريكجينيتسا»، أما التي تبيع الكباب فهي «كبابجينيتسا». وبصفة أساسية، تعتمد الطالبات اللواتي يعشن في منازل مؤجرة على «البيتا»، لتأمين قوتهن، بالنظر إلى سهولة الإعداد وقلة الكلفة. وتقول قانتة (23 سنة)، وهي طالبة كرواتية مسلمة من مدينة رييكا، على البحر الإدرياتيكي، «لقد علمتني والدتي، وهي معلمة صفوف ابتدائية، إعداد «البيتا» لكي يكفيني المبلغ الذي تخصصه لي شهريا. فأنا لا أعيش مع أسرتي ولا أزورها سوى مرة في الشهر. وحتى في البيت اعتمدنا «البيتا» كوجبة معظم أيام الأسبوع للتغلب على الأوضاع الصعبة، ولتوفير بعض المال لتناول طبق من السمك في نهاية الشهر». وذكرت أن والدتها «تصنع البيتا، ثم تضعها في الثلاجة لتأكل منها الأسرة لعدة أيام. إن والدي ووالدتي يعملان في مجال التعليم.. ومع ذلك نشعر بأن مرتبيهما لا يكفيان في ظل ارتفاع الأسعار وكثرة الفواتير». هذا، وإذا ما اختار البلقانيون الأكل في مطاعم «البيتا»، أو «البوريكجينيتسا»، فإنهم يقصدون مطاعم محببة معينة لا يطيب لهم الأكل إلا فيها. وكثيرا ما يختلف الأصدقاء حول المكان الذي يأكلون فيه «البيتا»، وكذلك العائلات. عزت مناسيباشيتش (55 سنة) وهو صاحب أحد المطاعم الذين التقتهم «الشرق الأوسط»، قال «يأتي الجميع وبعض المسؤولين الذين ربما يتحرّجون من الجلوس في هذا المكان الشعبي ليطلبوا فطائر «البوريك» و«الزيليانيتسا» و«الكرومبيروشا» إلى مكاتبهم أو منازلهم، ونتولّى نحن توصيلها إليهم، وهذه خدمة يوفرها الكثير من المطاعم ومحلات بيع البيتزا وغيرها». وذكر عزت أنه حوّل مطعمه من مطعم عادي يقدم الوجبات العالمية، ولا سيما الفرنسية والإيطالية إلى «بوريكجينيتسا» بعدما لاحظ تراجع الإقبال. ولدى سؤاله عن الوضع الآن، أجاب «البوريكجينيتسا تعمل بشكل جيد، وبشكل ممتاز في الصيف. فهنا الأكل ممتاز وفي الوقت نفسه الأسعار رخيصة جدا». وعن أسباب إقبال المواطنين على مطعمه مع أنه بإمكانهم صنع الفطائر ذاتها في بيوتهم، قال «السبب الأول أن كثيرين من الزبائن يأتون من مدن ومناطق أخرى. وثمة سبب ثانٍ هو أننا نعد «البيتا» على الجمر.. وليس في الأفران الكهربائية، فنضع الصينية أو الحلة داخل الجمر حتى تنضج «البيتا» والجميع يلاحظ الفارق في الطعم». أخيرا، رغم النجاح الذي أصابه الألبانيون في صناعة الخبز بالبلقان، حتى اشتهروا بذلك في عموم المنطقة إلى جانب تفوقهم بصناعة الحلويات، حوّلت نسبة كبيرة منهم مخابزها إلى مطاعم لإعداد فطائر «البيتا» مثل ضياء سلماني. وتقول صالحة وسميرة، العاملتان في «بوريكجينيتسا» سلماني أن «الأجانب أكثر الزبائن تحمسا، لأنهم يريدون معرفة مذاق أطعمة مختلفة عما عهدوه في بلدانهم من مأكولات وأطعمة». تنفي صالحة وسميرة وجود أزمة غذاء بوجود «البيتا» فهي سهلة التحضير وتشبع ولا تكلف كثيرا سواء للفرد أو العائلة. وبقي القول إن سعر فطيرة «بيتا» مشبعة لا يزيد سعرها على يورو واحد.