الجابري.. «مبخراتي» يطوف القاهرة «يحايل» الرزق وسط الدخان

يذهب إلى الأسواق الشعبية ويبخر البهائم والدكاكين الصغيرة

لحرصه على أبنائه يخفي الجابري عليهم مهنته («الشرق الأوسط»)
TT

من قرية أبو مشهور التابعة لمركز بركة السبع بمحافظة المنوفية، في وسط دلتا مصر، جاء الجابري إلى القاهرة فارا من المشاكل العائلية. قرر الهجرة الأبدية، حيث الأمل في الرزق وراحة البال وتجنب عقوق الأب الموظف بهيئة السكة الحديد. بعد خمسة عشر عاما من قراره الأبدي، مات أبوه، أخفت عليه زوجته النبأ، ارتحل عائدا لقريته وهو مثقل بالهم والذنب، ففوجئ بالأبواب الموصدة، وصراخ يطرده من بيت أبيه.

في حي إمبابة الشعبي التقطه صديق قديم من قريته، قضى أياما بصحبته، ثم نزل إلى سوق العمل، قبل أن يتوجه لبلدته لإعادة زوجته، وبدء رحلته الجديدة مع الأيام.

كانت القاهرة منصرفة عنه، لم تحن على غريب طريد جاء يلتمس رحمتها، عمل في البداية في «الفاعل» أي يحمل الطوب والخرسانة المسلحة على كتفيه، ثم تهالك جسده تحت قسوة الحجارة فانتقل للعمل في المطاعم، إلى أن جاءت اللحظة الفارقة عندما منعه صاحب المطعم عن الأكل مما تصنعه يداه، فقرر الابتعاد للأبد عن سطوة أصحاب الأعمال.

لم يكن الجابري يملك مالا ولا عافية ولا إرثا أو مجرد يد حانية تمتد إليه من المنوفية لتعيده إلى قريته، أمام تجهم الحياة، وطلبات أطفال وصبر زوجة يستعد للنفاد، كان لابد من حل، وقد وجده بعد فترة بعد أن لمح بطرف عينه «مبخراتي»، رجل يدخل بمبخرة من الحديد ويلف في الأسواق والبيوت، ويتهافت عليه التجار والبسطاء لتصورهم أن بخوره يطرد الأرواح الشريرة ويجلب البركة.

عاد إلى بيته سريعا، بعد أن «دردش» مع «المبخراتي» المار في الطريق حول تفاصيل مهنته، ومكونات مبخرته، قرر أن تصبح تلك هي مهنته، صنع مبخرته بنفسه، ثم ذهب إلى حي الحسين التاريخي ليشتري لوازم عمله الجديد، قطع من البخور، إضافات عطرية ذات مسميات شعبية، مثل «ألف زهرة»، «عين العفريت»، و«اللبان»، بينما حصل على الفحم مجانا من مقهى في الطريق أراد صاحبه مساعدته، ثم نزل في اليوم التالي لبدء الخطوة الأولى في طريقه الجديد.

يبدأ الجابري يومه في التاسعة صباحا، يمر على المحلات التجارية، ينتظر سويعات حتى تبدأ في البيع، وبعد فترة يدور داخل الجدران يردد أدعيته وتسبيحاته: «اذكر الله.. صل على النبي.. يا صالح الأحوال يا هادي»، وينال سريعا أجره البسيط ثم يخرج.

يقول الجابري: «أنتظر حتى الاستفتاح، ليس معقولا أن أتقاضى أجرا ولو بسيطا وصاحب المحل لم يرزق بعد».

يوما الثلاثاء والجمعة يذهب الجابري إلى الأسواق الشعبية، وتحديدا سوقي مطار إمبابة والمعتمدية في أطراف الجيزة، هناك يصبح الرزق وفيرا لتسارع عمليات البيع والشراء، يبخر البهائم المشتراة، والدكاكين الصغيرة.

يقول التابعي: «الرزق هناك واسع، واللي بيشتري بهيمة يبقى فرحان بيها ويقوللي بخرها ومايدققش في الأجر».

ومثلما يبخر البهائم يبخر السيارات الجديدة أيضا، يعتقد صاحبها أن التابعي بذكره وبخوره سينجيه من الحسد، كما يذهب أحيانا لحفلات (السبوع) الاحتفال بالمواليد في الأرياف، أما وقته الذهبي فيقضيه في الأفراح الشعبية، هناك يستعد بطريقته الخاصة، لديه ملابس مخصصة للأفراح، يدور على المدعوين وأقارب العروسين، وينال أجره من فرد، ثم يجزل له صاحب الفرح العطاء آخر الليلة. في رمضان يتغير جدول الجابري، يفطر على موائد الرحمن المنتشرة في شوارع القاهرة، ثم يدور على المحلات بعد الإفطار.

يقول الجابري: «أحيانا آخذ أجري بضاعة، صاحب مزرعة الدواجن يهديني دجاجة والجزار قطعة من اللحم، ولا أغضب أبدا لو لم يعطني أحد شيئا».

يبدأ أجر الجابري من عشرة قروش، أو ما يطلق عليه المصريون «البريزة» وبتراكم «البرايز» زوج ابنتيه، وله ثالثة في المرحلة السادسة من التعليم الابتدائي، كما تمكن من شراء قطعة أرض زراعية من المنتظر دخولها كردون المباني بمبلغ 20 ألف جنيه في ضاحية أوسيم الريفية، لتكون سكنا لابنه محمد حتى لا يسكن بالإيجار.

للجابري نظام صارم يطبقه على نفسه وأسرته لتستمر الحياة بلا أزمات، يبدأ في تجهيز البنات وهن في سن التاسعة، يخصص 60 جنيها من دخله الشهري لهذا الغرض، تمر السنون وتكبر البنت ثم تجد نفسها جاهزة للزفاف في حدود المتاح، فيقول: «مراتي بتشتري حاجة بحاجة من أي حد معدي بيبيع مستلزمات العرايس في الشارع، بابتدي بدري عشان متبقاش البنت حمل عليّ لما تكبر».

كما يترك للبيت مصروفا يوميا يتراوح بين 10 جنيهات وعشرين جنيها، حسب المتاح، ولو تأزمت الأمور، أو قابله ظرف طارئ يلجأ للاقتراض من أصحابه، وهنا يصبح همه الأول تسديد الدين قبل الطعام، ويضيف: «الحمد لله الأمور ماشية، أهم حاجة مأكلش ولادي حرام، لأن الحلال مهما تكبش منه مبيخسش والبطن مش هتشكر».

ولحرصه على بناته يخفي عليهن مهنته «لا أريد أن تنكسر أعينهن أمام أزواجهن لو علموا أنني مبخراتي، لا أعمل في منطقتي أبدا، ويظنون أني عامل أجير، مرة في مقهى وأخرى في مطعم، يعتقدون أن حرصي على البخور هواية، فأنا أبخرهم باستمرار، مع إضافة خلطات مخصوصة مثل حبة البركة والمستكة، فأنا أعيش لأسعدهم».

بملابسه الرثة وبخوره المتصاعد، ومع تجوله في الأسواق والمواقف يثير التابعي الريبة أحيانا، وقد يتعرض للاشتباه من الشرطة، يحكي عن موقف صعب تعرض له من قبل فقال: «اشتبه في هيئتي ضابط كان يمشط موقف منطقة أرض اللواء الشعبية، أركبني سيارة الشرطة مع آخرين، تخيلت ما سيحدث معي من تحقيقات ومكوث ساعات في قسم الشرطة، كنت أدرك أنني لن أتحمل ربع ساعة إضافية، فأنا على مشارف الستين وصحتي معتلة، بادرته راجيا: أنت هتخدني معاك ليه يا بيه.. أنا واحد بربي عيالي من الحلال، ومعاييش إلا شوية بخور، وناولته الحقيبة ليتأكد، سابني على طول أنزل من العربية».

نزل الجابري من السيارة والتقط أنفاسه، ثم عاد للسوق مرة أخرى يتحدى المخاطر، يكمل رحلة «البرايز» وسط دخان البخور، وذكر الله، وخشية الجوع.