تراجع عدد بائعي المازوت الجائلين في شوارع دمشق

مع العودة لمدافئ الحطب في التدفئة

بائع مازوت دمشقي بطريقته الفلكلورية على طنبره في شارع دمشقي
TT

لم تصدق رحاب، وهي ربة منزل دمشقية وموظفة في مؤسسة حكومية وأم لثلاثة أطفال، أن زوجها ميكانيكي السيارات سيفعلها.. ولكن وأمام دهشتها وضع قطع الخشب التي جاء بها من دكان جاره نجار الموبيليا وهي من مخلفات عمله في فرن مدفأة المازوت، وأشعلها لتعطي نارا قوية تدفئ المنزل وتبعث به الحرارة وتبعد برد كانون القاسي. وتضحك رحاب قائلة «كانت تجربة جيدة ولطيفة ومفيدة، فقد أدفأنا هذا الخشب، ولكن المشكلة أننا لم نستطع تخفيف درجة الحرارة كما نفعل عندما نضع المازوت كوقود حيث نتحكم بالحرارة، وكذلك أصدرت بقايا الخشب المحترق رائحة ودخانا أزعجا جيراننا».

ولكن الفكرة أعجبت رحاب، خاصة أن الحطب أرخص ثمنا من المازوت، فطلبت من زوجها تحويل مدفأتهم لتعمل على الحطب، وذلك يتطلب تغييرا بسيطا يمكن لأي حداد القيام به. وكما فعلت رحاب فإن الكثير من الدمشقيين فعلوا مثلها، كما أن الكثير منهم استغنى عن مدفأة المازوت واستبدلوها بمدافئ الحطب التي كان معظم زبائنها سكان البادية والأرياف السورية. ومع ارتفاع سعر المازوت كوقود في فصل الشتاء، ورغم قرار الحكومة تعويض الفقراء ومتوسطي الحال من السوريين بمبلغ مالي سنوي يعادل 200 دولار ليواجهوا به ارتفاع سعر المازوت، فإن الكثيرين بدأوا في العودة لمدافئ الحطب أو المدافئ التي تعمل على الكهرباء، فازدهرت سوق الحطب والخشب المخصصة للتدفئة. وبالتالي بدأت الكثير من أشكال المدافئ الحطبية تظهر في أسواق دمشق، خاصة في الأسواق المتخصصة، مثل شارع الملك فيصل بدمشق القديمة وسوق المنطقة الصناعية القديمة القريبة من باب مصلى جنوب دمشق.

وقد تفنن المصنعون الدمشقيون في تصميم هذه المدافئ، بحيث تظهر وبشكل جميل النار من داخلها مع الحطب المشتعل بشكل جميل يشبه المواقد الثابتة التي تنتشر في القصور والفيلات والصالونات الكبيرة في منازل الأثرياء. ويقول أحد مصنعي المدافئ واسمه أحمد الصيداوي (أبو كامل): «عملت مع ورش ومعامل معروفة منذ أكثر من ربع قرن في تصنيع المدافئ العادية التي تعمل على المازوت، وهي ذات أشكال وأحجام مختلفة وأسعار متفاوتة ونظم اشتعال متنوعة حسب الطريقة الإيطالية أو الألمانية وغيرهما، ولكن في السنتين الأخيرتين افتتحت ورشة صغيرة مع ولدي الكبير نصنع فيها مدافئ تعمل على الحطب بعد أن صار لها زبائن كثر في المدينة كما في الريف».

ويضيف أبو كامل «عادة نصنعها من المعدن وبشكل بسيط تلبي الغاية من تصنيعها لتعمل على الحطب بشكل جيد ومن دون أن تخلف روائح ودخانا داخل المنزل، بحيث نستخدم معادلة معروفة في تصنيع فرن المدفأة لتحقق الهدف والاشتعال الجيد والاحتراق للحطب، ولكن لاحظنا أن هناك زبائن خاصة ممن لديهم مضافات في منازلهم الريفية وفي خيم البدو يرغبون بشراء مدافئ حطب ذات أشكال خارجية مميزة، ولذلك صرنا ننوع في الأشكال مع بقاء الفرن كما هو، ولكن أدخلنا لها النحاس مع الحديد والصاج، وأدخلنا الزخارف الهندسية بحيث أعطتها شكلا جماليا حولها إلى عنصر تزييني في صالون المنزل يضاف جنبا إلى جانب العناصر التزيينية الأخرى، مع تحقيق الفائدة منها في التدفئة».

بسام الصالح، زبون كان يعاين المدافئ التي يعرضها أبو كامل في ورشته لشراء حاجته منها، قال «لا يهمني كثيرا شكل المدفأة ونموذجها، فأنا دخلي الشهري متواضع حيث أعمل مستخدما في إحدى مدارس دمشق، ولدي ستة أطفال معظمهم يتعلمون في المدارس ولا أستطيع تأمين متطلبات مدافئهم من المازوت، ولذلك قررت شراء مدفأتين تعملان على الحطب سأضعهما في غرفة الأولاد وفي غرفة الجلوس، وهناك محلات تبيع الحطب بشكل نظامي لهذا النوع من المدافئ، وقد حسبتها مع زوجتي بشكل دقيق فلاحظت أن ما ستقدمه لنا الحكومة من تعويض فرق سعر المازوت وبدل التدفئة الذي أحصل عليه مع راتبي الشهري يكفي إلى حد ما في تغطية تكاليف التدفئة لفصل الشتاء مع وجود أيام مشمسة عادة لا نشغل بها المدافئ فتوفر علينا التكاليف».

بائعو المازوت الفلكلوريون الذين يجوبون حارات دمشق منذ أكثر من نصف قرن بطريقة تراثية، باتوا مع طنابرهم إحدى مفردات الشتاء الدمشقي، فهم يتوارثون المهنة عن آبائهم كما يتوارثون الطنبر (وهو عبارة عن خزان ممتلئ بالمازوت يعبئه عادة صاحبه من كازيات المدينة بسعر مخفض ليحقق ربحا من بيعه في الحارات الدمشقية). ويجر الخزان حصان يجلس صاحبه على مقدمة الخزان المستطيل، حيث يوجد فاصل معدني يضع البائع قدميه عليه ويقوم بتسيير الحصان في الشوارع والأزقة. الطريف في مهنة هؤلاء والذي أصبح تقليدا دمشقيا أنهم يستخدمون آلة تزمير مميزة يمسكونها بأيديهم أو يركبونها بجانب مكان جلوسهم وقيادتهم للحصان وتصدر أصواتا خاصة بحيث تسمع من قبل الناس وهم في منازلهم وحتى لو كانوا في طوابق مرتفعة. ولا ينسى هؤلاء الباعة تزيين أحصنتهم بمختلف أشكال الزينة وبألوان زاهية لتظهر بشكل جميل، ومن يرد شراء المازوت يوقف البائع الذي عادة ما يتوقف في الأزقة والحارات لدقائق حتى يعرف الناس أنه وصل لحارتهم فيشتروا منه باللترات حسب حاجتهم اليومية.

ولكن هؤلاء الباعة الجائلين بدأ عددهم ينخفض في السنوات الأخيرة مع انخفاض الطلب على بضاعتهم والتي هي عادة في فصل الشتاء فقط، ويقول أحدهم ويدعى أبو العز إن السبب اعتماد الكثير من الأسر الدمشقية على استخدام مدافئ تعمل على الكهرباء أو الحطب ولكنه يضيف «تعودنا على مهنتنا هذه ولا نستطيع تركها، حتى ولو انخفض دخلنا منها، والبعض منا يغير طريقة عمله في فصل الصيف حيث يستفيد من الطنبر ببيع الخضار والفاكهة بشكل جوال في حارات دمشق والتي يأتي بها من الغوطة أو المناطق الزراعية القريبة من دمشق ولذلك (في شي بعوض شي..)» يقولها أبو العز مبتسما ويضيف «الكثير من النساء في الحارات الراقية يشترون الخضار من طنبرنا وينتظرون مجيئنا لحاراتهم، والسبب أننا نبيعها بسعر أرخص من محلات حاراتهم التي تبيع الخضار، كما أنهم يثقون بنا بأننا نبيع مباشرة من مزارعين موثوقين في العناية بمزروعاتهم ونظافتها وعدم استخدام المواد غير الصحية في التسميد والسقاية».