رضا وشقيقتها.. تجددان زمن «الحواة» في شوارع القاهرة

تأكلان النار وتنامان على المسامير

رضا تروض النار ولسان حالها يقول: كوني بردا وسلاما في فمي («الشرق الأوسط»)
TT

«أكل العيش مر»، ولكنه أحيانا يكون بطعم النار، هذا هو ما تفعله رضا وسيدة إبراهيم، فهما تتكسبان رزقهما من القيام بحركات الحواة مثل «أكل النار» و«النوم على المسامير» أمام المقاهي في منطقة وسط البلد الشهيرة في القاهرة، في انتظار ما يجود به المتفرجون من جنيهات قليلة تعينهما في العيش على حد الكفاف.

تشربت رضا وسيدة الشقيقتان المهنة من والدهما، وبحكم أسبقيتها العمرية كانت رضا أول من تعلم الدروس، ساعدها على ذلك حرفية والدها الذي كان حاويا معروفا في الأحياء الشعبية، وتبعتها سيدة، وبعد وفاة الوالد، وأمام ضرورات لقمة العيش حاولتا الخروج من الطوق، وجربتا العمل في عدة مهن، لكن دون جدوى، فليس ثمة مصدر آخر لرزقهما سوى ألاعيب الحواة، والنزول إلى الشارع، واستعادة جلباب الأب.

بكلمات مسجوعة تقف الشقيقتان أمام أحد المقاهي، تحاولان لفت الانتباه إلى ما ستفعلانه، تبدأ إحداهما في النداء على رواد المقهى «اتفرج وطير بناكل النار.. بنّام على المسامير»، فيما تملأ الأخرى فمها بالكيروسين وتمسك بشعلتين من النار تنفخ فيهما حتى تتحول النار إلى خيوط من اللهب، تمتد نحو المترين أمامها، قبل أن تدفع شعلة النار إلى داخل فمها لتطفئها، وتكرر تلك العملية أكثر من مرة.

وعقب الانتهاء من تلك الفقرة، تأتي إحدى الشقيقتين بلوح من الخشب به نحو مائة من المسامير الصلبة الحادة، وتضعه على الأرض وترقد عليه، وسط ذهول كل من يرى ذلك المشهد من هول المغامرة، وخشيتهم من أن يتمزق الجسد، خاصة أن ما يستره لا يعدو زيا خفيفا.

وعقب الانتهاء من الفقرتين، تبدأ الشقيقتان في المرور على رواد المقهى طلبا لبضعة جنيهات قليلة، البعض يعطيهما والبعض يتجاهل الأمر، وآخرون يتعاملون مع رضا وسيدة على أنهما متسولتين، إلا أنهما سرعان ما ينتهيان من جمع «الحسنة» لإعادة الكرة في مقهى آخر.

وفي مصر تحفظ ذاكرة الموالد الشعبية فصولا من مهن الحواة وألاعيبهم، ولسنوات طويلة ظلت شخصية الحاوي مرتبطة بأجواء هذه الموالد، إلى أن زاحمتها ضغوط الحياة فانتقلت إلى الشوارع والمقاهي وفي المناطق الشعبية من المدن سعيا وراء مزيد من الرزق.

«أكل العيش صعب وأنا مش متعلمة هاشتغل إيه يعني؟»، تردد رضا (30 عاما) مبررة امتهانها «اللعب مع النار»، وتشير إلى أنها تعلمت هذه المهنة من والدها منذ أن كانت في العاشرة من عمرها، لتساعده في عمله، تركته الوحيدة التي ورثتها عنه لمدة عشرين عاما، لم تتوقف خلالها سوى لعامين فقط خاضت خلالهما تجربة زواج من ابن عمها، الذي كان يعمل بنفس المهنة، انتهت بوفاة الزوج مخلفا وراءه طفلا في الثامنة من عمره الآن، واضطرت للعودة إلى اللعب بالنار مع شقيقتها مرة أخرى كي تستطيع الإنفاق على نفسها وصغيرها.

عن مخاطر عملها، تقول رضا «ليت الأمر يتوقف على مخاطر الحرق، بل الخطر الأكبر هو مطاردة رجال الشرطة لنا باعتبارنا متسولين، وإذا قبض علينا قد نواجه خطر السجن لمدة 6 أشهر بالإضافة إلى غرامة مالية كبيرة».

«استنشاق الكيروسين أضرّ بصدري بشكل كبير وأعاني من صعوبة في التنفس خاصة في الليل، ووضعه في الفم أضر بأسناني، وأحيانا أبتلع بعض الكيروسين دون قصد فأتسبب في إصابتي بآلام شديدة في المعدة».. تشبه هذه الكلمات مرثية موجعة من مراثي الحياة، تضيف إليها رضا «جسدي لا يسلم من الحروق» وتشير إلى آثارها في أصابعها ويديها ووجهها. وتقول «ذات يوم شتوي ممطر، كانت الرياح شديدة وبينما كنت أقدم عرض النار أمام أحد المقاهي دفعت الرياح النار للخلف لتحرق وجهي لكن ربنا ستر».

مشهد آخر في المرثية، تضيفه سيدة (26 عاما)، قائلة «بعض أصحاب المقاهي يرفضون أن نقدم ألعابنا أمام مقاهيهم، خوفا من النار في بعض الأحيان وخوفا من تأذي الزبائن وانصرافهم عن المقهى في أحيان أخرى، فماذا نفعل حتى نكسب لقمة عيشنا؟».

لكن تساؤل سيدة وحيرتها يدخل في دائرة الشفقة والتعاطف، حين تكشف أن مكسبها وشقيقتها لا يتجاوز 30 جنيها في اليوم الواحد (نحو 5 دولارات)، قد يزيد في بعض الأيام أو يقل، «ومحدش بينام من غير عَشَا».

وتعتبر سيدة المظاهرات السياسية التي تحدث أحيانا في وسط القاهرة، من أيام النحس حيث تتعطلان فيها عن العمل «لأنه في تلك الحالة تنتشر قوات الشرطة في كل مكان وقد يقبضون علينا بالصدفة».

تسكن رضا وسيدة في منطقة «الكيلو 4.5» بطريق القاهرة - السويس، في «عشة» من الصفيح إيجارها 100 جنيه (نحو 18 دولارا) في الشهر وتقطعان يوميا نحو 20 كيلومترا في المواصلات العامة للوصول إلى مقاهي وسط القاهرة حتى يعرضا ألعابهما.

وتوضح أنها وشقيقتها تذهبان إلى الموالد التي تقام داخل القاهرة أو في المدن القريبة منها لعرض ألعابهما النارية، وهنا قد يزيد الدخل أو يشمل أيضا بعض وجبات الطعام التي يوزعها أهل الخير على الفقراء في تلك الموالد.

أحلام سيدة بسيطة ومشروعة، لا تتعدى زوجا يحميها ويقيها من مخاطر مهنتها، ومن التجول في الشوارع، وبدلا من اللعب مع النار والمسامير تتمنى اللعب مع الحياة، خاصة أن المهنة شاقة في أيام الصيف الحارة وليالي الشتاء الباردة، لكنها في الوقت نفسه، تتساءل بواقعية قاسية «من الذي سيرضى بالزواج من فتاة فقيرة ومعدمة مثلي وتفوح منها دائما رائحة الكيروسين»؟! أما رضا فكل ما تتمناه من الدنيا هو أن ينجح ابنها وليد في الدراسة، فهو تلميذ بالصف الرابع الابتدائي، ويواصل تعليمه، ليخرج من شرنقة اللعب بالنار.

أحلام سيدة وشقيقتها، لا تخلو من نقطة ضوء، لكنها نقطة مشروطة بمصادفة وجود بعض السياح الأجانب الذين يرتادون مقاهي وسط القاهرة، حينئذ تتحول ألعابهما الشعبية إلى ظاهرة فريدة، حيث يحرصون على تصويرهما، وفي النهاية يجزلون لهما العطاء.

تقول رضا «اليوم الذي يصادفنا فيه سياح على المقاهي يكون يوم الرزق بصحيح، فبعضهم لا يبخل علينا بأموال جيدة، تعيننا على الحياة والراحة لعدة أيام».

وتذكر رضا أن من أشهر مواسمهما شهر رمضان، والأعياد، والصيف، لأنه في تلك الأوقات يكثر رواد المقاهي، وبالتالي قد تزيد النقود التي يدفعونها.