«الكندرجية».. انقرض مفصلّوها وبقي مصلحوها

مهنة يخجل منها بعض أصحابها رغم توارثها عن الآباء

مهنة الكندرجية ما زالت موجودة ولو بشكل قليل في دمشق أما مهنة الإسكافية أو مفصلي الأحذية فقد وصلت مرحلة الانقراض («الشرق الأوسط»)
TT

في منطقة باب الجابية بدمشق وقف الرجل تاركاً الحذاء الذي يعمل على إصلاحه وطالباً عدم التقاط صورة له، فهو وكالعديد من مصلحي الأحذية القديمة يخجل من ممارسة هذه المهنة التي كما قال عدنان (فقط يعرف نفسه باسمه الأول) عنها إنها غير جيدة. ولكن كان لا بد له من العمل بها حتى يعيل أسرته. وفي حين اعتذر عدنان كان سعيد حديد (أبو صالح) أكثر منه تجاوباً ودبلوماسية، وهو الذي يعمل في مهنة تصليح الأحذية منذ ربع قرن من خلال دكان صغير في مدخل سوق السروجية القديم المجاور لسوق الحميدية الشهير بدمشق، حيث ينتشر العديد من (الكندرجية) وهي التسمية الشعبية الدمشقية الدارجة لمن يمارس مهنة تصليح الأحذية، وفي عدد من الأسواق والحارات الشعبية.

ويقول أبو صالح مهنة الكندرجية مثلها مثل أي مهنة قديمة التي كانت تعرف باسم الاسكافي، ولا أرى أي سبب ليخجل منها البعض الذي يعتقد أنها تشابه مهنة مسح الأحذية في حين أنها تختلف عنها اختلافاً كليا، فنحن نمارس عملا شريفا ورغم أن عملنا حالياً لا يحقق دخلا جيدا بسبب انتشار الأحذية الرخيصة الثمن وخاصة الصينية الصنع والتي تباع في معظم أسواق دمشق بأسعار تناسب الفقراء وأصحاب الدخل المحدود والذين يقبلون على شرائها وينتعلونها لأشهر ومن ثم يشترون غيرها ولا يصلحونها بسبب رخص سعرها.

وهؤلاء أي الموظفين والفقراء هم بالأصل زبائننا الأساسيون في العصر الحالي ولولاهم لما كنا موجودين ولانقرضت مهنتنا. ومع ذلك فإن العديد من هؤلاء الزبائن ما زال يعتمد علينا حتى عندما يشترون حذاء جديداً صينياً أو شعبياً، كما يصفونه، فيطلبون منا تمتين الحذاء وشدّ وجهه من خلال درزه بشكل أفضل مما هو عليه وحتى يستمرون في انتعاله لفترة أطول. وهناك من يطلب ترميم أحذيتهم وإصلاحها خاصة أننا نعمل على استبدال سفل الحذاء (النعل) بالكامل. وغالباً هؤلاء تكون أحذيتهم مصنعة بشكل جيد. ولكن بعد أشهر من ارتدائها يأتون إلينا لصيانتها حتى لا يشتروا غيرها.

وحول أدوات الكندرجية قال أبو صالح: أدواتنا بسيطة وهي عبارة عن آلة السندان التي نثبت عليها الحذاء، وتتميز بأن لها شكلا واحدا قديما عبارة عن عمود معدني مثبت بالأرض وتعلوه قطعة معدنية منبسطة الشكل يوضع عليها الحذاء والذي يحتاج لتثبيت مسامير عليه بواسطة أداة معروفة تسمى القدّوم أو الجاكوش. كذلك هناك آلة الدرازة وهي ماكينة تعمل على الكهرباء أو يدوية ومن الأدوات التي نستخدمها، أيضاً هناك آلة الجملخ والتي تعمل على جلخ أطراف الحذاء من جوانبه حتى يعطي شكلا متناسقاً.

وحول ممارسي المهنة حالياً يقول أبو صالح هناك من يعمل بهذه المهنة منذ عشرات السنين وتوارثها عن والده وهؤلاء غالباً يمتلكون محلا صغيراً يستثمره لصالح مهنته بينما هناك ممارسي مهنة جدد دخلوها في السنوات الماضية وهؤلاء غالباً يعملون من خلال بسطة على رصيف في الأسواق المكتظة أو في الحارات الشعبية وغالباً تكون أدواتهم بسيطة ويعتمدون في معظم عملهم على الصيانة الفورية لحذاء الزبون، حيث ينتظر لدقائق إصلاح حذائه على الرصيف ويكون لديهم حذاء بسيط يقدمونه للزبون لينتعله ريثما يصلح حذاءه، بينما أصحاب المحلات غالباً يبقى الحذاء لديهم لأيام ويكون زبائنهم من سكان الحي الذين يستثمرون محلهم فيه أو من زبائن السوق يضعونه أمانة لدى الكندرجي ويعودون بعد أيام قليلة ليأخذوه بعد إصلاحه.

ومن زبائن هؤلاء النساء أيضاً. ولكن هناك مشكلات يتعرض لها هؤلاء أصحاب المحلات ومنها عدم عودة صاحب الحذاء ليأخذه أو عودته بعد أشهر بسبب نسيانه كما يبررون لنا والبعض عندما يأتي يرفض أخذ حذائه عندما يعلم بأجرة تصليحه المرتفعة وهذه المشكلات لا تواجه غالباً المصلحين على الأرصفة.

وفي حين مهنة الكندرجية ما زالت موجودة ولو بشكل قليل في دمشق فإن مهنة الإسكافية أو مفصلي الأحذية وصلت مرحلة الانقراض تقريباً في دمشق ولم يبق سوى عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة يتواجدون في سوق ساروجة القديم الفاصل ما بين دمشق القديمة والجديدة وزبائنهم أصحاب الأقدام الكبيرة وكبار السن والمحافظين على التراث الذين لديهم تحسس من الأحذية الجاهزة.

ويقول محمد حسون الذي عمل في مهنة تفصيل الأحذية منذ نصف قرن تقريباً وتركها قبل خمس سنوات بسبب كبره في السن وانخفاض عدد زبائنها وتحولها إلى مهنة غير مربحة: كان من زبائننا قبل عشرات السنين وجهاء البلد والأثرياء والأساتذة وكبار موظفي الدولة وهؤلاء كانوا يتباهون بتفصيل حذائهم لدى أسماء معروفة في دمشق ورغم وجود عدد من المحلات التي كانت تبيع الأحذية المستوردة الجاهزة إلا أنهم كانوا يرفضون التعامل معها حيث يعتبرون تفصيل الحذاء شيئا مكملا للوجاهة والشهرة مثلما كانوا يفصلون البدلات ولا يشترون الجاهزة منها رغم أن تفصيل حذاء كان يستغرق أياماً وأسابيع ولكن كانوا ينتظرون وخاصة قبل الأعياد حيث يقوم هؤلاء بطلب تفصيله قبل أسابيع من مجيء العيد. ولكن الحال تغير منذ نحو ربع قرن تقريباً وانخفض عددنا في دمشق والمدن السورية الأخرى مع انتشار المصانع الآلية للأحذية خاصة في مدينة حلب. وفي السنوات العشر الأخيرة بدأت الأحذية المستوردة وحتى صار هناك أحذية تسمى بالة تأتي مع الألبسة الأوروبية المستعملة وتباع كبالة في سوق القنوات وغيرها وخاصة الإيطالية الصنع تباع في الأسواق الدمشقية الراقية. ولذلك قلّ كثيراً عدد من يرغب بتفصيل حذاء وصار يشتري حذاء فاخراً بدقائق ولو كان سعره أغلى من سعر المفصل لدينا.