زخرفة الأثاث الخشبي بالتصديف والموزاييك

مهنة عمرها مئات السنين مسجلة لحرفيي دمشق فقط

الحرفي الدمشقي يوسف ناعمة ومنتجاته من الأثاث والقطع الخشبية المزخرفة بالصدف («الشرق الأوسط»)
TT

الزائر لمحلات وورش الصناعات التقليدية الدمشقية إن كان في التكية السليمانية أو باب شرقي أو سوق الحميدية وغيرها لا بد وأن يتوقف أمام تلك الكراسي الفخمة والدواوين والطاولات والمناضد واللوحات الجدارية الخشبية التي تتلألأ أمامه بألوان بيضاء وزرقاء وخضراء، حيث الخشب مطعم بالصدف ومعه الموزاييك الزخرفي اللوني.

وقد لا يصدق الزائر أن كل هذا الثراء الزخرفي واللوني ما زالت تبدعه اليد وليس الآلة، ونحن في عصر تحول كل شيء فيه حتى الأشياء الصغيرة إلى العمل الآلي والريموت كونترول. ولكن بعد برهة من الوقت يصدق الأمر، عندما يشاهد حرفيين دمشقيين، توارث معظمهم المهن اليدوية عن أجدادهم وآبائهم، ما زالوا يؤمنون بالإبداع اليدوي حتى ولو أخذ منهم تصنيع كرسي مرصع بالصدف والموزاييك الزخرفي عشرة أيام، وحتى لو أن زبائنهم قليلون وغالبا من الميسورين والأثرياء وأصحاب المنشآت السياحية التراثية.

فهم بالمحصلة ينتجون قطعة يدوية فاخرة، ويحافظون على إرث الآباء والأجداد، كما يقول يوسف ناعمة (أبو عماد) لـ«الشرق الأوسط»، وهو أحد حرفيي دمشق في مجال تصديف وموزاييك الأثاث الدمشقي الفاخر. ويضيف أن «المهنة قديمة وتراثية، وتوارثناها أبا عن جد، ونحن منذ مئات السنين ننتج عشرات القطع المصدفة (نحو 100 نوع) ومنها الأثاث المزخرف بالموزاييك والصدف (ننتج 30 طرازا) مثل الخزائن وأطقم الكنبايات والبيرو والقنصليات بمختلف أشكالها وأحجامها (خزائن بللورية خشبية مصدفة ومزينة بالموزاييك لعرض التحف والأشياء الثمينة). «ونصنع أيضا العلب الفاخرة للضيافة في المكاتب والمنازل، حيث توضع فيها الشيكولاته والراحة والنوجا لتقدم للضيوف بشكل تراثي جميل. ومن المنتجات أيضا علب المجوهرات التي تضع فيها النساء مجوهراتها الثمينة في علبة ثمينة مزخرفة بشكل جميل، تتناسب مع ما تحويه. وننتج طاولات لعبة الزهر الشعبية المعروفة، وهي عادة من الموزاييك المطعم بالصدف بحيث تزال القطع الخشبية وتطعم بالصدف مكانها بطريقة فنية. وهناك قطع أخرى انقرضت تقريبا حاليا ودخلت متاحف التقاليد الشعبية، ومنها الصندوق الذي كان من أهم مفردات (جهاز) العروس ليوم زفافها وانتقالها لبيت الزوجية. وكان يستخدم عوضا عن غرفة النوم حاليا حيث كان لهذا الصندوق أربع طبقات (أدراج) تضع فيها العروس ثيابها وحاجياتها، وله مرآة كبيرة. ولكن لم يعد يصنع حاليا لوجود غرف النوم».

ويضيف أبو عماد «وكان أجدادي يصنعون أيضا قطعة مصدفة تسمى (كازيه) يوضع عليها قنديل للإنارة بواسطة الجاز وذلك قبل وصول الكهرباء لدمشق في أوائل القرن العشرين. وحاليا نصنع مثل هذه القطع، ولكن للعرض والزينة فقط كتراثيات».

وحول مراحل العمل بهذه المنتجات التراثية قال ناعمة «نأتي بالصدف من تجار يستوردونه، وهو صدف بحري وألوانه الأخضر والأبيض، أو نهري من دير الزور نسميه الصدف الديري، وله ثلاثة ألوان وهي الأبيض والأصفر والزهري. ويكون عبارة عن مادة خام، ومن ثم نقوم بنقع الصدف البحري بالمياه حتى يطرى قليلا، أما الصدف الديري فهو يأتي طريا ونحافظ على وضعه وألوانه الطبيعية، ونقوم بعد ذلك بتقطيع الصدف إلى أجزاء صغيرة ثم نقوم بعملية تلبيس الأثاث الخشبي بهذه القطع الصدفية وبشكل يدوي. وهنا تبرز مهارة الحرفي في إنزال الصدفة بمكانها بشكل دقيق وبطريقة المبرد على الأثاث الخشبي، وحسب الموديلات، حيث يكون مكان الصدفة الصغيرة محفورا في القطعة الخشبية».

وحول زبائن هذه المنتجات يقول ناعمة «إن الطلبات تتنوع بتنوع الزبائن، فمنهم من يرغب في أن نصنع له غرفة (شرقية) مصنوعة من الصدف. وتتألف الغرفة عادة من ستة كراسي وكنبايتين وطقم طاولات. وبالتأكيد نقوم قبل ذلك بتصنيع هذه الغرفة من الخشب، وبعدها تأتي عملية التصديف الزخرفي وتنتج بعدة طرز ورسوم مختلفة وزخارف، وهي طريقة في الزخرفة لم يعرفها ويعمل بها سوى حرفيي دمشق. حيث ابتكرها الدمشقيون منذ مئات السنين وسجلت باسمهم». وحول مجالات الإبداع والابتكار في هذه المهنة يقول ناعمة «هناك مجالات واسعة ليبدع فيها الحرفي، وذلك من خلال الرسومات بالصدف، حيث يتفنن الحرفي حسب القطعة التي ينتجها. ومنها مثلا إطار لمرآة، فهذا يحتاج لشكل رسم يتناسب والإطار، وكذلك بما يتلاءم مع مفردات الأثاث. فمثلا شاهد رسمنا على خزانة عرض الجامع الأموي بشكل مصدف، بحيث يمكن أن تستخدم الخزانة لوضع الأشياء في داخلها وفي خارجها، وتعطي منظرا تراثيا جميلا فتقدم فوائد كثيرة لمقتنيها».

وحول توريث المهنة لأولاده يقول أبو عماد «نحن سبعة أبناء ورث المهنة ستة منا عن والدن،ا فيما شقيقي السابع لم يقبل العمل بمهنة والده، وأنا لدي ولد صغير حاليا (عمره 13 عاما) أتمنى أن يرث المهنة عني حتى تبقى مستمرة ولا تندثر». وحول مجالات التطوير في هذه المهنة يقول «طورنا في مهنة آبائنا من خلال ابتكار رسومات وزخارف جديدة وتطعيم الموزاييك بالصدف. والشيء المميز لهذه المهنة أنها لا يمكن العمل فيها إلا يدويا، حيث جربنا إدخال الآلة إليها ولكن لم تنجح في إتمام عملية التصديف خاصة في مرحلة الرسوم والطرز المختلفة». ويميز ناعمة طلبات الكثير من زبائنه كانوا يطلبون منه القطع بأشكال مختلفة ومميزة، وكان يصنعها لهم حسب طلبهم. فالسياح الأجانب يطلبون القطع التزيينية المصدفة الصغيرة الحجم، في حين هناك زبائن عرب ومؤسسات طلبت منه تصنيع قطع كبيرة، ومنهم إدارة فندق الشام، حيث صنع ناعمة للفندق أطقم الكنبايات منذ افتتاحه بداية ثمانينات القرن المنصرم والموجودة حتى اليوم. وكان من المميز فيها كرسي لف بموديل إنجليزي خاص. وهناك الكثير من قصور الخليج قام ناعمة بتصنيع الكنبايات المصدفة لها بناء على طلب أصحابها. كما يميز ناعمة بين القطع المصدفة بالصدف البحري فهي أثمن، بينما النهري أرخص، والسبب أن البحري أجود ويعيش لفترة أطول من النهري.

ويؤكد أبو عماد أن مهنة زخرفة الأثاث الخشبي بالتصديف قديمة جدا وعمرها مئات السنين، وهي أقدم من الموزاييك وابتكرت بشكل جماعي ولم تسجل باسم أحد كما هو حال الموزاييك الذي ابتكره حرفي دمشقي هو جورج بيطار. كما أن العاملين في هذه المهنة انخفض عددهم بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة خاصة أن هناك حرفيين كبار السن لم يورثوها لأولادهم، فلم يحل محلهم أحد في استمرارية المهنة، ولكن وجود الحرفيين الدمشقيين في المعارض الدولية يسهم في الإبقاء عليها. فهو يشارك باستمرار في هذه المعارض، وكان آخر مشاركة له في أواخر الصيف الماضي في معرض تراثي أقيم بسلطنة عمان.