اللبنانيون «يعيشون بالتقسيط المريح»

بعد ارتفاع الأسعار وزيادة متطلبات الحياة

في نهاية المطاف، لا يمكن لأي شخص إلا أن يجد في التقسيط حلا لا بد منه للخروج من مأزق الدفع نقدا (أ.ب)
TT

من «البابوج إلى الطربوش» يعيش اللبنانيون حياتهم «بالتقسيط المريح» كي يلحقوا بركب العصر ومتطلباته. ولا فرق هنا بين الكماليات والأساسيات، فتأمين مستلزمات الحياة بات يفرض عليهم الاستعانة بأسهل الوسائل الممكنة، وبات أفضلها الدفع بالتقسيط للحصول على كل ما قد يندرج تحت خانة «العين بصيرة واليد قصيرة». فإذا استثنينا الميسورين ماديا، يمكن القول بأن لسان حال معظم اللبنانيين واحد، «المصروف أكبر من الدخول، ومهما ارتفع الأخير يبقى الأول متفوقا عليه بأضعاف»، فكيف إذا كان عليهم شراء حاجيات بمبالغ طائلة؟ أمام هذا الواقع بات على الطرفين، أي الزبون والبائع، إيجاد الحلول الملائمة، وكانت النتيجة الاستعانة بمبدأ التقسيط الذي دخل في ما يشبه المبارزة بين المصارف والمحلات التجارية لتقديم أفضل العروض إلى الزبائن، والحل الأسرع والأسهل بالنسبة إلى المواطن. حل بات ملجأ رب العائلة والأعزب على حد سواء، من البيت إلى السيارة مرورا بالأدوات المنزلية والكهربائية والتكنولوجية، وصولا إلى الثياب والرحلات السياحية من دون أن ننسى شهر العسل وحفلة الزواج.. واللائحة طويلة. ريما هي إحدى اللواتي خضن مشروعات العمر بالتقسيط، وذلك عندما اتخذت قرار الزواج، فبدأت هذه الرحلة الطويلة لتأمين سير الحياة الزوجية. في بادئ الأمر، كان عليها التعهد بمساعدة خطيبها لدفع الأقساط الشهرية لعشرين سنة منذ حصلت على موافقة من بنك الإسكان، الذي يقدم قروضا لشراء المنازل. لكن هذا المنزل يحتاج أيضا إلى مستلزمات تتطلّب دفع ما يزيد على راتب خمسة أشهر لها ولخطيبها، فما كان أمامها إلا اتخاذ قرار التقسيط بدل تأجيل موعد الزواج سنتين إلى حين تأمين المبلغ. لكن من قال إن المصاريف تتوقف هنا؟! فبعد ثلاث سنوات من الزواج كان لا بد من استبدال سيارة جديدة بالسيارة القديمة، وبالطبع الحل هو اللجوء إلى التقسيط. وتقول ريما، التي تشبه حالتها الآلاف من اللبنانيين، «يمكن القول بأن راتبي يتوزع كل شهر على المصارف بدل أقساط المشتريات، ليبقى علينا ترتيب أمورنا براتب زوجي بأقل الخسائر المادية الممكنة كي لا نضطر إلى الاستدانة». وفي حين يعتمد معظم الناس مبدأ التقسيط، ويرون فيه حلا لا غنى عنه في وضع اقتصادي مترد ووضع اجتماعي متطور ومتقلب من النواحي كافة، وحجتهم في ذلك أن بهذه التسهيلات يتمكن الجميع من الحصول على متطلباتهم، التي لا يملكون المال الكافي لشرائها دفعة واحدة، متناسين الفوائد التي تتراكم شهريا عليهم، التي قد تصل إلى ضعف السعر الحقيقي، يفضل الآخرون اعتماد مبدأ الادخار بدل التقسيط، وكلما نجحوا في تجميع مبلغ معين اشتروا به حاجتهم. وحتى الثياب دخلت على خط الاقتراض أو التقسيط بالنسبة إلى خلود، التي تعمل في إحدى الشركات الخاصة، وتسعى إلى اللحاق بالموضة على الرغم من عدم توافر الإمكانات المادية نقدا، وتقول «خروجي اليومي إلى العمل يفرض علي أن أظهر بأفضل حُلة، وهذا الأمر يتطلب دفع مبالغ مادية كبيرة شهريا، لكنني ومنذ سنة تقريبا تعرفت إلى سيدة تستورد بضاعة من تركيا وتبيعها بالتقسيط، فوجدت الأمر مغريا ولجأت إليه في شراء معظم حاجياتي من الثياب». وتضيف «مع العلم بأنني اعتمدت المبدأ نفسه عندما قررت شراء كومبيوتر خاص لابني. دفعت أول دفعة وكانت صغيرة، وبعد ذلك قمت بتقسيط الباقي على سنة من دون أن أشعر بعبء المبلغ مرة واحدة». حيال هذا الواقع الاجتماعي، تنشط المحلات التجارية بالاتفاق مع المصارف، على خطط إغراء الزبائن ماديا، مستخدمة شعارات رنانة، ومقدمة عروضا مغرية، كأن تكثف هذه الإعلانات في الشهرين الأخيرين من كل عام، وتركز على اجتذاب الزبائن مثلا من خلال إعلان «اشتر هذا العام، وادفع العام المقبل» وحتى من دون دفعة أولى، فإن الأمر الذي يجعل الناس يؤجلون الحصول على مبتغاهم هو هم الدفع في وقت لاحق. تقول مريم عطوي، المسؤولة عن قسم القروض والتقسيط في محلات Homeline)) لبيع الأدوات المنزلية والكهربائية: «60 في المائة من زبائننا يلجأون إلى التقسيط في شراء حاجياتهم، لا سيما أننا نقدم عرضا خاصا وهو إعفاؤهم من فائدة السنة الأولى، وإذا كانت الأقساط تمتد سنوات إضافية فتكون فائدتها 7 في المائة ثم تنخفض إلى 3.5 في المائة». وتلفت مريم النظر إلى «أن بعض المؤسسات تأخذ على عاتقها مهمة التقسيط للزبون، إلا أن مؤسستنا تتعامل مع المصرف الذي يدفع لنا المبلغ نقدا، ويسدد له الزبون السندات فيما بعد». وتشير إلى «أن الشراء بالتقسيط لا يقتصر فقط على من يتقاضون راتبا صغيرا، بل الأمر نفسه ينسحب في أحيان كثيرة على من يصل راتبه إلى 10 آلاف دولار، ويعتمد على الرغم من ذلك على مبدأ خبئ قرشك الأبيض ليومك الأسود. ما دام بإمكانه تقسيط حاجياته. مع العلم أنه في فترة الأعياد تزيد نسبة الزبائن الذين يشترون الهدايا والحاجيات بالتقسيط». وعن الشروط الواجب توافرها لدى الزبون لقبول طلب التقسيط، تختصرها نانسي، إحدى العاملات في قسم خدمات الزبائن في بنك «البحر المتوسط»، في إفادتي السكن والراتب الذي يجب ألا يقل بالنسبة للأعزب عن 400 دولار، والمتزوج عن 600 دولار أميركي. إضافة إلى عدم ارتباطه بقرض آخر أو ألا تتعدى أقساطه الشهرية ثلث قيمة الراتب، وألا يزيد سنه على 61 سنة ولا يقل عن 19 عاما. وفيما يتعلق بالقروض التي تصب في النهاية في خانة التقسيط، التي يقدمها المصرف، تقول نانسي: «نقدم كل أنواع القروض من الشخصي إلى الدراسة والبيت والسيارة والكومبيوتر وغيرها من الأمور، لكن تبقى قروض السيارات والكومبيوتر هي الأكثر رواجا بين اللبنانيين، وزادت مؤخرا طلبات قروض المنازل نظرا إلى ارتفاع أسعارها بشكل ملحوظ». في نهاية المطاف، لا يمكن لأي شخص إلا أن يجد في التقسيط حلا لا بد منه للخروج من مأزق الدفع نقدا، لا سيما في حالة الحاجة إلى متطلبات أساسية لا يمكن الاستغناء عنها في حياتنا اليومية، لكن لا يمكننا في الوقت عينه إلا الإقرار بأن هذا الخيار، بدل أن يساهم في عملية التقشف في المصاريف، فتح الباب واسعا أمام زيادة الإنفاق، وذلك بعدما صار الناس يجدون سهولة في اعتماده، ويقدمون على شراء أشياء كثيرة هي بالنسبة إليهم لا تعدو كونها من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها وعن تكاليفها.