مدرسة مغربية تدمج أطفال الشوارع في المجتمع من خلال فنون السيرك

اسمها مستوحى من الشمس لإشاعة نور الأمل بدل اليأس في نفوس الصغار

أطفال مدرسة «شمسي» يأملون أن يصبحوا أبطالا في فن السيرك («الشرق الأوسط»)
TT

تبدو قصبة «كناوة» الأثرية التي تؤوي مدرسة «شمسي» للسيرك، مثل بناية قديمة متآكلة الأطراف بفعل رطوبة البحر، في حي سيدي موسى الشعبي، في مدينة سلا المجاورة للرباط.

المشهد يوحي بالسكون، وما إن ينفتح الباب حتى يفاجأ الزائر داخل المدرسة بخلية نحل حقيقية تموج بالحركة. أطفال وشباب في عمر الورود، من الجنسين، منهمكون في الدراسة داخل فصولهم، أو منشغلون بالتدريب في ورش ومعامل فنية، أو منصرفون إلى الحركات الرياضية داخل خيمة السيرك بهمة وحماس، كأنهم يستعدون لعرض قريب.

«إن هؤلاء التلاميذ يتهيأون اليوم، ليصبحوا غدا أبطالا في عالم السيرك، ولهذه المدرسة الفريدة من نوعها في المغرب تاريخ في هذا المجال، بعد أن دأبت على احتضان الأطفال، وهم في معظمهم ضحايا ظروف صعبة، وتوفر لهم ظروف الدراسة، مقرونة بتعلم فنون السيرك».

يقول إشهاد المؤمن الأمين العام لمدرسة «شمسي»: «إن اسمها مستوحى فعلا من الشمس، ويعني إشاعة الإشراق، وبعث الضياء، ونور الأمل في نفوس الأطفال، وذلك بغية انتشالهم من اليأس، نتيجة طردهم من مدرسة ما، أو لتفكك عائلي ما. وأوضح المؤمن أن السيرك داخل المدرسة يشكل عالما جديدا بالنسبة إلى الطفل، يجد فيه توازنه، ومن خلاله يستعيد القدرة على الثقة بنفسه، وبالآخرين أيضا».

ويوضح زكرياء بنيامين مدير الدراسات في مدرسة «شمسي»، أن التلاميذ، وعددهم 150 تلميذا، لا يتلقون فنون السيرك العصري وحدها فحسب، بل هناك أيضا أقسام لتعليم اللغات الحية، وفصول لاكتساب المهارات في الأعمال اليدوية والأشكال التعبيرية، مثل الرسم والمسرح والموسيقى، وكذا استيعاب المعلوميات، وغيرها من وسائل التواصل الحديثة.

ويقوم بالتلقين طاقم تربوي، مكوَّن من اختصاصيين اجتماعيين، ومؤطرين تربويين، وأساتذة مغاربة وفرنسيين.

تشرف على تدبير وتسيير مدرسة «شمسي» «الجمعية المغربية لمساعدة الأطفال في وضعية غير مستقرة»، التي تأسست في الرباط عام 1996.

وقالت رئيستها ثريا بوعبيد الجعايدي، لـ«الشرق الأوسط»: «إن المَعْلَمة الأثرية القديمة التي توجد داخلها المدرسة، بناها الملك مولاي إسماعيل في مدينة سلا، بالقرب من شاطئ المحيط الأطلسي، منذ ثلاثة قرون، وسلمتها وزارة الثقافة الوصية على قطاع الآثار، للجمعية، لمساعدتها على القيام بدورها في تنشئة الأطفال، بهدف إعادة إدماجهم في المجتمع، من خلال تربيتهم ثقافيا، وتأهيلهم تعليميا للنجاح في المستقبل».

وتعبر الجعايدي عن ذلك بقولها: «إن الجمعية تتابع تكوين كل طفل لديها، إلى أن يصبح شابا، ويستطيع التحليق بجناحيه، اعتمادا على نفسه، متفاديا الاعتماد على غيره، ومحافظا على قيمته كإنسان من حقه أن يتعلم ليعيش بكرامة».

وأشارت الجعايدي إلى أنه بالنسبة إلى التمويل، تتلقى الجمعية التي تعمل بالتنسيق مع وزارة التعليم، دعما من وزارة التشغيل (العمل)، إضافة إلى إسهامات محسنين، ومديري شركات، لهم وعي اجتماعي بأهمية التضامن والتكافل، وممثلي هيئات دبلوماسية وسفارات لدول مثل فرنسا، وفلندا، وبلجيكا، وكندا، وغيرها من الجهات التي تقدم للجمعية مساعدات مادية سنوية، وفق برامج محددة يتم على أساسها الحصول على الدعم. «ومن بين المسهمين أيضا مكتب العمل الدولي، الذي لا يبخل بالمساعدة».

وناشدت الجعايدي المقتدرين في كل مكان دعم المدرسة، مشيرة إلى أن الجمعية تدير أيضا ما يقارب 10 مراكز استقبال أخرى لفائدة الأطفال، في تخصصات مختلفة، ضمنها «دار الانطلاقة الجديدة»، وهي أول مركز لمحاربة الإدمان، في بلدة «عين عتيق» في ضواحي الرباط.

يتخرج في مدرسة «شمسي» سنويا شباب يحمل شهادات معترفا بها في عالم السيرك.

تتذكر سعيدة رحال (22 سنة) أنها لم تستطع مواصلة الدراسة لظروف خارجة عن إرادتها، فالتقت أساتذة، يطلق عليهم «مربي الشارع» تابعين للجمعية، عرضوا عليها مساعدتها، وإنقاذها من الضياع الذي كان يتهددها. وقد كان.

ورحال هي الآن خريجة مدرسة «شمسي» للسيرك، بعد أن تلقت تدريبا في هذا المجال، عدة سنوات، مما أتاح لها فرص العمل، وفتح في وجهها آفاق التنقل من مكان إلى آخر، لتقديم العروض داخل المغرب وخارجه. ولدى مقابلتها كانت عائدة لتوها من مراكش، وقالت بابتهاج واضح: «لقيت في مدرسة (شمسي) الحضن الدافئ، وأنوي الاستمرار في عالم السيرك».

وتطغى الحيوية نفسها على نبرة صوت بدر الدين هوطار (23 سنة، طالب في المدرسة الوطنية للسيرك)، مشيرا إلى أنه كان يسعى للتخصص في الهندسة من خلال نيل دبلوم في هذا الميدان، غير أنه بدل وجهته نحو السيرك الذي وجد فيه مبتغاه، على حد قوله.

وتتسع خيمة السيرك، الموجودة وسط ساحة المدرسة، لـ750 مقعدا، وتجري فيها التدريبات، كما تحتضن عروضا مفيدة لمختلف الفئات الاجتماعية، وبخاصة تلاميذ المؤسسات التعليمية.

وبالإضافة إلى جولات داخل المغرب وخارجها، يشارك أطفال وشباب مدرسة «شمسي» في الكثير من العروض على مستوى عال، إلى جانب كبار محترفي السيرك العالميين، بغية اكتساب المزيد من الخبرة من خلال الاحتكاك بهم.

وما زال سكان مدينتَي الرباط وسلا يتذكرون بفرح غامر مشاركة تلاميذ المدرسة في تقديم عرض ملحمي فني كبير على شاطئ نهر أبي رقراق الذي يفصل المدينتين، تحت عنوان «أطفال أبي رقراق: قراصنة 2008»، أعاد إلى الأذهان صفحة من التاريخ البحري للمنطقة.