دار الوثائق القومية.. مضبطة ذاكرة المصريين

أنشأها محمد علي باسم «الدفترخانة» وتضم أكثر من 90 مليون وثيقة

مبنى دار الوثائق من الخارج («الشرق الأوسط»)
TT

تختزل دار الوثائق القومية، بموقعها المميز على كورنيش نيل القاهرة، رحلة الأرشيف والفهرسة لوثائق وسجلات المصريين عبر مختلف الأزمنة والعصور. فقبل 180 عاما تقريبا، أسس محمد علي باشا الكبير «الدفترخانة المصرية» عام 1828م، في محاولة للم شتات هذا الأرشيف، لكن قبل هذا التأسيس كانت هناك مئات من القرون التي شهدت تمثيلات وتنويعات مختلفة لفكرة «الأرشيف»، و«تسجيل الوثائق». حيث لم يكن غريبا على الإنسان المصري القديم الذي اخترع أدوات ووسائل التواصل الكتابية من ورق البردي والحبر والأبجدية، أن يكون هو أول من قام بحفظ المستندات واختراع الفهرسة والأرشفة.

وهناك في البرديات القديمة ما يدل على معرفة المصري القديم بالوثائق وتوصله إلى نظم للأرشفة وإدراكه لأهمية التوثيق، ولم يقل الاهتمام بوجود الأرشيفات المفهرسة والمنظمة في العصرين اليوناني والروماني وامتد إلى العصور الإسلامية.

وهناك ما يشير إلى وجود مؤسسات وهيئات لحفظ الوثائق في مصر العثمانية، أو ما كان يعرف بـ«خزانة السجلات»، وهي المسؤولة عن حفظ سجلات المحاكم الشرعية، وكذلك كان هناك ما يعرف بـ«الدفتر خانة» وهي الجهة المنوط بها حفظ سجلات «ديوان الروزنامة».

كان أول أرشيف وطني أسس بالمعنى المفهوم للأرشيف أو دار الوثائق والسجلات الرسمية، في فرنسا عام 1790عقب قيام الثورة الفرنسية ، حيث شهد القرن التاسع عشر نهضة كبرى في تأسيس وقيام دور الأرشيف القومية للدول والبلدان ذات السيادة الوطنية..

وفي سنة 1828 أنشأ محمد علي باشا الكبير والي مصر «الدفترخانة المصرية»، وكان مقرها القلعة، وقام بوضع القوانين واللوائح المنظمة للعمل بها، وكانت تعتبر خطوة رائدة في تاريخ تطور الأرشيف المصري، وعرِّب اسم «الدفترخانة» فيما بعد إلى «دار المحفوظات العمومية»، واستمر العمل بها حتى قام الملك فؤاد الأول بإنشاء القسم التاريخي بقصر عابدين، مقر الحكم آنذاك، وقام بنقل أعداد كبيرة من وثائق الأسرة العلوية في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين بهدف استخدامها في كتابة تاريخ أسرة محمد علي.. ومع قيام ثورة يوليو (تموز) عام 1952 بدأ إنشاء وتدشين «دار الوثائق التاريخية القومية» بمقتضى القانون رقم 356 لسنة 1954، وكان إنشاء هذه الدار إنجازا ضخما من إنجازات الثورة المصرية، لتبدأ بعدها حركة نشطة ودؤوبة لجمع شتات وثائق مصر التاريخية المبعثرة في أماكن متباعدة لا علاقة ولا رابط بينها وبين ما تضمه من وثائق تاريخية. إذ كان بعضها موزعا بين القصر الجمهوري ودار المحفوظات ومجلس الوزراء ووزارة العدل ووزارة الأوقاف والأزهر، وغيرها. واستهدف القانون الصادر وقانون الوثائق الموحد تحديد نوعية الوثائق التي تحفظ بالدار وطريقة إتاحتها، وتجميعها من القوانين والمراسيم والمعاهدات ووثائق المفاوضات التي أجرتها مصر وسجلات محمد علي وغيرها في مكان واحد موحد هو «دار الوثائق القومية»، حتى تكون متاحة للباحثين وراغبي الإفادة منها، على أن ترتب وتفهرس وفق منظور علمي، وأن ييسر البحث فيها والاطلاع عليها ونشر ما يتقرر نشره منها على الباحثين والدارسين وعموم الراغبين في ذلك.

تمثل دار الوثائق القومية الذاكرة الأرشيفية الكاملة لمصر ودول أخرى على امتداد عصورها القديمة والوسيطة والحديثة على السواء. وهي الحافظة القومية لسجلات وأرشيفات الوطن الرسمية والمكاتبات والمبايعات وحجج ووثائق البلاد والعباد منذ أواخر العصر الفاطمي وحتى الآن. حيث تمثل سجل الوقائع التاريخية الحية اليومية المعيشة.. وقامت الدار باقتناء الكثير من الوثائق الخاصة بتاريخ البلاد العربية وشرق ووسط أفريقيا، ووصل عدد هذه الوثائق إلى ما يزيد على 90 مليون وثيقة، وهي بذلك تعد من أهم وأكبر دور الأرشيف والوثائق والسجلات الرسمية في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط منذ تأسست في الثلث الأول من القرن التاسع عشر وحتى الآن.

تضم دار الوثائق القومية مجموعة من أندر مجموعات الوثائق الخاصة بتاريخ مصر منذ العصر الفاطمي حتى الوقت الراهن، بالإضافة إلى احتفاظها بوثائق تتعلق بتاريخ السودان وبلاد الشام والجزيرة العربية بشكل أساسي، كما تحتفظ بوثائق تتعلق بتاريخ كريت وتركيا والمغرب العربي والعراق وإيران وإثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي وأوغندا وكينيا والمنطقة بصفة عامة. وعن أهم المجموعات الوثائقية الخاصة بتاريخ مصر بشكل خاص، تحتفظ دار الوثائق بثروة لا تقدر بمال، عبارة عن مجموعات وثائقية في غاية الأهمية من العصر العثماني تغطي تاريخ مصر في العصر العثماني، وتتوزع على النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. منها على سبيل المثال: سجلات المحاكم الشرعية، حيث تحتفظ الدار بمجموعة ضخمة من السجلات والوثائق المفردة تضم مضابط ومواد شرعية تغطي نشاط المحاكم الشرعية منذ أوائل العصر العثماني وحتى منتصف القرن العشرين. وكذلك سجلات «ديوان الروزنامة» التي تشمل معلومات مالية وإدارية عن مصر منذ العصر العثماني وحتى نهاية القرن التاسع عشر. كما تحتفظ الدار بمجموعة مهمة من حجج الأمراء والسلاطين التي تشمل الكثير من التصرفات الشرعية للأمراء والسلاطين، مثل وقف الأراضي والعقارات على أوجه البر المختلفة في مصر منذ القرن السادس الهجري وحتى القرن العشرين. وكذلك أصول الفرمانات الصادرة من السلاطين العثمانيين لولاة مصر وقضاتها.

بالإضافة إلى ما سبق من المجموعات الوثائقية التي كانت سائدة وموجودة خلال العصر العثماني.. هناك مجموعة من الوثائق الخاصة بالقرن التاسع عشر الذي تميز عن العصور السابقة له بظهور مجموعات متكاملة من الوثائق التي شملت سجلات الدواوين التي أنشأها محمد علي باشا، مثل «وثائق ديوان المعية»، وكذلك «وثائق الديوان الخديوي» التي تحتوي على نصوص الأوامر العلية والقرارات والمكاتبات الصادرة من الباشا أو معيته إلى جهات ومؤسسات الحكومة المصرية، والمكاتبات والمراسلات الواردة من تلك الجهات إلى الباشا ومعيته. ومن تلك الدواوين أيضا «ديوان الجهادية» الذي تحكي وثائقه تاريخ الجيش المصري وتكوينه منذ أنشأه محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر، و«ديوان البحرية» الذي يحكي تاريخ الأسطول المصري الحربي والمدني، وكذلك ديوان التجارة وغيرها من الدواوين. هذا بالإضافة إلى ظهور نوعية جديدة من وثائق الإدارة المحلية بعد أن قسم محمد علي مصر إلى مديريات ومحافظات، حيث تحتفظ الدار بأعداد ضخمة من الوثائق نتجت عن نشاط تلك المديريات والمحافظات خلال القرن التاسع عشر. كما تميز هذا القرن بوجود نوع جديد من الوثائق غني بمادته القانونية والاجتماعية والاقتصادية وهي سجلات ووثائق المجالس القضائية، وأهمها جمعية الحقانية ومجلس الأحكام وما تفرع عنه من مجالس محلية في كافة الأقاليم.

أما عن أهم الوثائق التي تضمها من القرن العشرين، فهناك وثائق مجلس النظار والوزراء منذ إنشائه عام 1878 وحتى سبعينات القرن العشرين. وكذلك وثائق وزارة الخارجية المصرية منذ القرن التاسع عشر وحتى قرب الوقت الحاضر. كما تضم أيضا مذكرات بعض الزعماء والقادة السياسيين مثل سعد زغلول وإبراهيم الهلباوي وغيرهما. وكذلك وثائق مصلحة الشركات والوزارات الحالية. وتقتني دار الوثائق كذلك مجموعات بالغة الأهمية من الوثائق الخاصة بتاريخ السودان، منها عدد كبير جدا من السجلات والوثائق المفردة التي نتجت عن نشاط الإدارة المصرية بالسودان وتم تصنيفها في مجموعات أرشيفية عديدة من بينها: حكمدارية السودان، ومالية السودان، وإدارة أشغال السودان، وجهادية السودان، وسكك حديد السودان، ومصلحة عتق الرقيق بالسودان، وقومندانية حدود الحبش. كما تحتفظ الدار بوثائق الإدارة المحلية في السودان، فهناك على سبيل المثال وثائق: محافظة الخرطوم، ومديرية سنار وفيزوغلي، ومديرية كردفان، ومديرية دنقلة، ومديرية فاشودة، ومديرية التاكة، ومديرية بحر الغزال، ومديرية البحر الأبيض، ومديرية خط الاستواء. كذلك تحتفظ الدار بعدد كبير من الوثائق الخاصة بتاريخ بلاد الشام، منها ما جمع وصنف تحت اسم «محافظ الشام»، ومنها ما هو مفرق في الوحدات الأرشيفية الأخرى مثل وثائق الجيش المصري خاصة في فترة الحكم المصري للشام، والذوات وسجلات المحاكم الشرعية وغيرها. والوثائق الخاصة بتاريخ شبه الجزيرة العربية، وأهمها وثائق الحجاز، وكذلك ما هو مفرق في المجموعات الأرشيفية الأخرى. ووثائق كريت واليونان، وذلك خلال الفترة الزمنية التاريخية التي خضعت فيها كريت واليونان لحكم مصر، وكانت كريت محطة مهمة بين مصر واليونان، وتحتفظ دار الوثائق بوحدات أرشيفية عن كريت، كما توجد كثير من الوثائق الخاصة باليونان في فترة حروب المورة.

كما توجد وثائق كثيرة تغطي تاريخ بعض البلاد العربية الأخرى، مثل العراق وبلاد المغرب العربي، كما تقدم وثائق وزارة الخارجية المصرية معلومات مهمة عن علاقات مصر مع العالم الخارجي بدوله وحكوماته المختلفة والمتعاقبة.

وتفتح الدار أبوابها يوميا للباحثين المصريين في شتى دروب المعرفة والعلم من المصريين والعرب والأجانب، وتقدم لهم تسهيلات بأحدث طرق ووسائل التكنولوجيا، للوصول إلى ما يريدون البحث عنه، بسهولة ويسر، كما تهيئ لهم الجو المناسب لذلك.