الظاهرية: أعمال ترميم أقدم مكتبة عامة في بلاد الشام تطال مبانيها التاريخية

أسست قبل 130 سنة بأمر من الوالي العثماني مدحت باشا

الزقاق بين مكتبة الظاهرية ومبنى العادلية («الشرق الأوسط»)
TT

تتسارع أعمال الترميم والإصلاح والتجميل التي تخضع لها «المكتبة الظاهرية»، أقدم مكتبة عامة في دمشق وبلاد الشام. وهي تنفذ بالتعاون مع جهات قزاقية (كازاخستانية)، وتشمل جميع أقسام بناء المكتبة، وكذلك قبر الملك الظاهر الموجود في إحدى زوايا المبنى. وكان الظاهر قد توفي عام 1288م، ونقل من قصره الأبلق (مبنى التكية السليمانية الحالي بدمشق) إلى دار الظاهرية، التي سكنها في البداية والد صلاح الدين الأيوبي، ومن ثم تحولت إلى مدرسة، وبعدها إلى مكتبة عامة.

تأتي هذه الأعمال بعد خمس سنوات من ترميم مبنى «المدرسة العادلية»، التي تقع مقابل «الظاهرية»، وظلت مكانا لتعليم تلامذة المرحلة الابتدائية حتى عام 1912. ثم سلمت عام 1926 إلى «مجمع اللغة العربية» الذي حولها إلى مقر له، قبل أن ينتقل في سبعينات القرن المنصرم إلى مقره الجديد في حي المالكي بدمشق. ولقد ضمت فيما بعد إلى «المكتبة الظاهرية». واليوم ها هما تحويان تحتويان أقدم المخطوطات والكتب العربية القديمة وأهمها، وتستقبلان يوميا عشرات الباحثين وطلبة الجامعات والمفكرين الباحثين عن مراجع ثقافية لزوم أبحاثهم ومقالاتهم، حيث يتهيأ لهم في المكتبة القاعات الواسعة مع كل مستلزمات البحث والمطالعة. ولقد أخذت القاعات تسميات أعلام دمشق مثل: خليل مردم وطاهر الجزائري ومصطفى الشهابي ومحمد كرد علي.

وحول أعمال الترميم والتجميل الجارية على المكتبة، يفيد القائمون عليها أنها «شملت جميع منشآت المبنى، الذي يضم ثلاث قاعات كبيرة. كما جرى ترميم النقوش والكتابات التي تزين جدران المكتبة وأبوابها، وكانت الأعمال التي نفذت متوافقة تماما مع ما كان عليه شكل المبنى عند تشييده قبل 700 سنة. والمكتبة ذات طراز معماري مملوكي، ولقد أعيدت كما كانت سابقا، وجرى ترميم جدران المبنى وفق طرازها الأصلي وهو طراز أيوبي. وروعي في التنفيذ استخدام الأحجار بالسماكات ذاتها. كذلك تم إصلاح وترميم الأسقف الخشبية والأقواس الحجرية والقبب القرميدية، وفي الباحة الخارجية رممت البحرة (البركة) الواسعة التي تزين الباحة، وكذلك الواجهات والشرفات.

هذا، ويتميز بناء المكتبة، التي تقع شمالي الجامع الأموي بجانب حمام الملك الظاهر، وفي منطقة الحارات الدمشقية القديمة، بالفخامة والوقار. وهي تتألف من طابقين وباحة واسعة كبيرة تتوسطها بحرة ماء، وعلى جوانب الباحة قاعات واسعة وتزيينات مختلفة ومدخل جميل تعلوه القبب القرميدية. كما تتميز زاوية المبنى، حيث قبر الملك الظاهر وابنه الملك السعيد، بهندسة معمارية فريدة تجمع فن الفسيفساء مع الزخارف والرخام والأشكال الهندسية والمقرنصات والأقواس. كما تضم محرابا جميلا.

ويؤكد المؤرخون أن واجهتي المكتبة تعتبران من أجمل ما بناه المماليك، إذ بنيتا من الأحجار المنحوتة. وفي أعلى المبنى، كوى مستديرة تحيط بها زخارف هندسية. أما بالنسبة لموجودات المكتبة العامة، أو مقتنياتها، فإنها تضم حوالي 75 ألف كتاب و300 ألف مجلد و13 ألف مخطوط قديم تعود كلها لمئات السنين، وتتوزع على مواضيع متنوعة أدبية وتراثية وتاريخية وعلمية. ومن أهم هذه المقتنيات كتاب «القانون في الطب» لابن سينا، و«الكليات» لأبي البقاء الكفوي، و«تاريخ الدول الإسلامية بالمغرب» لابن خلدون، و«عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» للقزويني، و«الزبور»، و«تاريخ الخميس»، و«لسان العرب».

كذلك يوجد في المكتبة جناح خاص بالصحف والمجلات والدوريات والمعاجم، يضم حوالي 1500 دورية عربية وأجنبية، معظمها قديم وتوقف إصداره.

وراهنا، يقدر أنه يستفيد من المكتبة حوالي 60 ألف باحث وطالب جامعي. وتجري الإعارة الداخلية فيها فقط من خلال ثلاث قاعات، هي: قاعة مصطفى الشهابي التي تتسع لـ150 شخصا، وقاعة الشيخ مصطفى الجزائري التي تستخدم نظام الرفوف المفتوحة وتتسع لـ 70 شخصا، وقاعة خليل مردم بك وتتسع لـ40 باحثا، ورفوفها مفتوحة. أضف إلى ما تقدم أنه يزور المكتبة سنويا حوالي 5 آلاف سائح، مسموح لهم بالتجوال في أقسامها، ويتاح لهم مشاهدة قبر الملك الظاهر بعمارته المميزة.

الجدير بالذكر، أن الفضل في تأسيس «المكتبة الظاهرية»، قبل حوالي 130 سنة، يعود إلى مفتش التعليم العام في دمشق الأمير طاهر الجزائري، وإلى مدحت باشا والي دمشق العثماني المتنور يوم ذاك. ولقد شهدت تلك الفترة - أي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي - سرقة كثير من المخطوطات النفيسة من مكتبات مدارس دمشق، كالعمرية والصابونية والخياطين وعبد الله باشا العظم، والمكتبات الوقفية كالسليمانية والمرادية والسمباطية والخطابة وغيرها. وعلى إثر ذلك، حث الأمير طاهر الوالي العثماني على المحافظة على هذه المخطوطات عبر جمعها وضمها في مكتبة واحدة ووضعها بتصرف العامة. وهكذا كان، إذ اتخذ مدحت باشا قرارا بتأسيس المكتبة الظاهرية بنص شهير، هو «لما كانت الكتب الموقوفة والمشروطة لاستفادة العموم قد حصرت بأيدي المتولين، وحرمت الناس من مطالعتها، صدر الأمر الجليل من ملجأ الولاية، وأعطي قرار من طرف مجلس الإدارة، ويجري جمع الكتب والرسائل الموقوفة الكائنة تحت أيدي المتولين، ووضعها بخزانة مخصوصة عمرت وأنشئت بتربة الملك الظاهر في المحل المخصوص المعمر لأجل ذلك جوار تربة السلطان صلاح الدين، لأجل أن تصير المنفعة عمومية ولا يحرم من الاستفادة والمطالعة التي هي أجل مقاصد الوقف، بل لأجلها وقف، ويتأسس بذلك مكتبة عمومية».

وفورا باشر الشيخ طاهر الجزائري وصحبه جمع المخطوطات من الدور الخاصة والمكتبات المتفرقة ذات الطابع الوقفي، فوضعت في «المكتبة الظاهرية»، حيث أحصيت وسجلت وضبطت وسلمت إلى أيدي محافظين مؤتمنين. ولا يزال «مجمع اللغة العربية» الذي أسسه العلامة محمد كرد علي، يشرف على «المكتبة الظاهرية» - وشقيقتها «العادلية» - التي تعتبر بحق أول مكتبة عامة في بلاد الشام.