النحلة.. رقصة المتعة وذكريات الزمن الجميل

يعشقها الأطفال في القرى والأحياء الشعبية المصرية

عادت النحلة من جديد في صورة مختلفة، فقد أصبحت تصنع من البلاستيك بدلا من الخشب الذي طالما ميزها («الشرق الأوسط»)
TT

نَهَر الجد حفيده الصغير كي يكف عن تحركه المستمر في أرجاء المكان قائلا «يا ولد اثبت شويه، عَمّال تلف وتدور زي النحلة». لكن الصغير - إمعانا في ممازحة جده - سرعان ما أخرج بالفعل من طوايا دولابه الصغير نحلة، وعلى مساحة فارغة من السجاجيد، أطلق لها العنان لتلف وتدور على البلاط الناعم، محدثة تموجات من الذبذبات والدوامات.. صمت الجد قليلا، وبطاقة من روح الطفولة اقترب من النحلة، فَرَدَ لها كفه فانزلقت عليها، وهي تلف على بطن الكف في حنان، وبعد جو من المسامرة كافأ الجد حفيده بقطعة معتبرة من الحلوى. في المقابل لم يستطع «عم سمير» شرح فكرته بكلمات مناسبة، يرغب في قول إن الدغدغة التي تخلفها «النحلة» على يد الصغير، هي لحظة لن يتمكن من استعادتها يوما، وأنها مجرد وهم، وأن الزمن سيتكفل بترك أثره على هذه الكف الصغيرة، وأن عليه أن يعمل بجد في تحصيل دروسه، لكي يتمكن يوما من تجاوز حدود واقعه.

يؤنب عم سمير ابنه أحمد، على تركه هموم مراجعة فروضه المدرسية، أملا في سهولة الاختبارات، بعد أن أصابت إنفلونزا الخنازير العام الدراسي بما يشبه الشلل، وبدأ يلعب في مدخل البناية لعبته المفضلة «النحلة الدوارة». غصة لا يجيد عم سمير إخفاءها، لكنها تكشف عن جيولوجيا السعادة؛ طبقات من خبرة المرح الناجية من قبضة الزمن، والعالقة في قبضته المرتعشة، وهو يستجيب لرغبة الابن في تجربة اللعبة مرة أخرى.

أمسك بالنحلة، وحزمها بالدوبارة، قبل أن يفلتها من يده. لم ينجح عم سمير في جعلها تدور على رأسها المعدني، فقد ارتطم جانبها بالأرض. بينما لاحقته ضحكات الصغير، أكد وهو نصف غاضب نصف مبتهج أن السبب في الفشل هو الزمن، والتقدم في العمر.. «يا عم بقا لي سنين معملتهاش.. شوف من إمتى»، وهو يطلق اللعنات على الفتى الشامت.

جاءت محاولته الثانية أفضل حالا، قبل أن ينسحب خجلا من منافسة الصغير الذي بدأ يطلب النحلة ليستعرض مهارته، بعدما فشل الأب.

أحمد فتى ماهر حقا في هذه اللعبة. يفلت النحلة بتكنيك خاص، ساحبا ذراعه إلى الخلف بسرعة خاطفة، وهو يترك الدوبارة لتقوم بدورها في جعل النحلة - بجسمها المخروطي - تستجيب للدوران، شرط أن تلامس الأرض بنقطة ارتكازها على الرأس المعدني الصغير الذي يتوسط السطح الأصغر حجما منها (النحلة). وقد اشتق اسم هذه اللعبة من طنين دورانها الذي يشبه طنين النحل. ثم يبدأ أحمد في رفعها، بينما تدور بكامل سرعتها، على كفه. وهي حركة تحتاج لكثير من المهارة. فلابد له من الحذر وهو يقترب بكفه منها ويترك مساحة كافية لها بين سبابته والوسطى دون أن يصدمها بقوة فيؤثر على دورانها.

يقذفها أحيانا لأعلى وهي تدور ويستقبلها مرة أخرى، أو يمررها من كف لكف. لكن هذه المهارات لا تفيد كثيرا في المنافسات بين الصبية، فهي لا تعدو كونها مجرد استعراض للمتعة والتباري في إظهار القدرة على التحكم، لكن فيما يتعلق بمسابقات المصارعة على الحلبة يظهر أحمد تراجعا ملحوظا.

وعلى الرغم من اختفاء لعبة «النحلة الدوارة» من حواري وشوارع القاهرة خلال السنوات الماضية، فإنها بدأت في الظهور مجددا على استحياء، وهي سمة غالبة على تاريخ هذه اللعبة، فهي تتطور فيما يشبه موجات العدوى، تنتشر بقوة في الساحات حيث يتحلق المتبارون، ثم تعاود اختفاءها مرة أخرى، على عكس ألعاب أخرى، انقرضت أو في طريقها للانقراض، بعدما حاصرتها الألعاب الحديثة وتبدل الواقع الاجتماعي للحواري والشوارع في مصر.

عادت النحلة من جديد في صورة مختلفة هذه المرة، فقد أصحبت تصنع من البلاستيك المصمت الذي يسهم في جعلها أكثر ثقلا، بديلا عن الخشب الذي طالما ميزها. يملك أحمد نحلة بلاستيكية، لكنه يسعى للبحث عن أخرى خشبية. إلا أن الأمر يتطلب أن يقطع مسافة طويلة من مسكنه في حي المهندسين إلى حي بولاق الدكرور. فما زالت الأحياء الشعبية تتمسك بالتقاليد رغم انتشار النحلات البلاستيكية بها، ولن تعدم أن تجد في أزقتها من يبيع النحل الخشبي الكلاسيكي، أو تجد نجارا يخرط لك واحدة «عمولة» على النحو الذي ترغبه.

ورغم ما شهدته اللعبة من تبدل في مادة صناعتها فإن الدوبارة المستخدمة في «لفها» حافظت على ألوانها المميزة التي طالما عرفت بها. اللونان الأحمر والأسود بالإضافة إلى خامتها القطنية السلسة، والتي تعد أفضل الخامات لأداء الدور المنوط بالدوبارة، فلا هو ناعم بحيث يفقد تأثيره تماما وينزلق على الجسم المخروطي، ولا هو قوي كالدوبارة المجدولة من الكتان بحيث تخلق قوة مقاومة.

الشيء الوحيد الذي فُقِد مع تغير خامة النحلة هو شغف تلوينها كل على طريقته. فالنحلة الخشبية كانت مجالا للتباري بين الصغار على تزيينها بألوان تنثر بهجتها في لحظات دورانها. مصطفى عبد التواب فني التبريد والتكييف، الذي تجاوز الخمسين من عمره، يتذكر ماضيه المشرق في هذه اللعبة، فقد ظل لسنوات طويلة أشهر المتبارين في هذه اللعبة بالكوم الأخضر بحي الهرم.

كان عبد التواب قادرا على كسر نحلة خصمه بإصابتها إصابة مباشرة وهي تدور على الأرض. وهي مهارة شديدة الصعوبة، وتعرف هذه اللعبة في تراث الألعاب الشعبية بلعبة «النكوة»، والأصل فيها أن يتبارى الخصمان على دفع نحلة الآخر بحيث تكف عن الدوران، لكن الفوز يصبح باهرا لو تم كسر نحلة الخصم. وفي الوقت نفسه تحتفظ نحلته بدورانها المعتاد.

وبحسه الفني يستعيد جمال عبد العزيز، وهو كاتب صحافي، ذكرياته مع النحلة، مشيرا إلى أنها «كانت اللعبة المفضلة لعدد كبير من أقراني الصبيان في قريتنا الريفية، لدرجة أننا كونا فريقا أسميناه (فريق النحل) في مواجهة ألعاب أخرى خشنة، كلعبة (البو) التي تشبه إلى حد كبير لعبة الهوكي في أيامنا، وكانوا يلعبونها، بأغصان خشبية ثقيلة». ويذكر عبد العزيز: «النحلة لعبة خفيفة ورهيفة، تنطوي على مهارة وقدرة بصرية، سواء في عملية لف الدوبارة على جسمها، أو في لحظة إطلاقها لتلامس الأرض بخفة، وكأنها فراشة تحوم على غصن يانع.. لدرجة أنني كنت أخفيها تحت الوسادة لتجلب لي الحظ، وحتى أنام قرير العين».