ارتفاع سعر الذهب يغير عادات الدمشقيات في ارتداء الحلي الذهبية

بائعوها ومصمموها يتحسرون على أيام الزمن الجميل

جانب من سوق الصاغة الدمشقية القديمة («الشرق الأوسط»)
TT

في محله الصغير، بواجهته الزجاجية المزدانة بأجمل الحلي الذهبية المصممة والمصنعة محليا في سوق الذهب في دمشق القديمة، يتحسر فادي (أبو بشارة) على الزمن الماضي، عندما كان سعر غرام الذهب لا يتجاوز خمسمائة ليرة، حيث كان يزدحم المكان بالنساء والرجال والعرسان الذين يشترون مختلف أنواع الحلي الذهبية وبعياراتها العالية.

يقول أبو بشارة لـ«الشرق الوسط»: «ومع ارتفاع سعر غرام الذهب عالميا ومحليا لنحو ثلاثة أضعاف، حيث يتراوح مابين 1400 و1500 ليرة سورية، فإن الطلب على المصوغات انخفض كثيرا. بل أصبح هناك عكس اتجاه البيع، حيث الكثير من النساء يأتين لمحله لبيع ما لديهن من مصوغات ذهبية بسبب الفارق في السعر. وكعادة نساء دمشق، فإن الذهب لديهن عبارة عن بنك منزلي يخبئنه في اليوم الأبيض لليوم الأسود، ولوقت الحاجة».

ويعلق على كلام فادي أحد الواقفين قائلا: «ولكن ألا تلاحظ كم هي سوق الصاغة مزدحمة بالناس، وتشكو قلة الزبائن؟» وهنا يرسل فادي آهة عميقة مجيبا: يا أخي، هذا الازدحام البشري هو للفرجة فقط، حيث يتوقفون أمام واجهات محلاتنا لمشاهدة ما ضمنها، وقد يسألوننا من باب الفضول والاطلاع عن سعر غرام الذهب المتغير يوميا، ويذهبون، كما أن الكثير من هؤلاء يعبرون سوق الصاغة فقط ليتوجهوا إلى سوق البزورية من سوق الحميدية، أو من سياح دمشق الذين يتجولون في أوابد دمشق القديمة. وحتى من يشتري حاليا، هم الأغنياء والميسورون فقط والمضطرون من المقبلين على الزواج، وهؤلاء باتوا يقتصدون كثيرا في الشراء، فلم يعد يهمهم اللمسات الفنية في المصوغات ولا الوزن أو الحجم والأنواع، ويكتفي بعضهم بشراء خواتم الخطوبة فقط مع إسوار بسيط. تصور يا أخي - يقولها أبو بشارة بامتعاض - بات البعض يساومنا حتى بأجرة صياغة القطعة الذهبية، حيث يعتبر البعض أننا نأخذها ربحا مع القطعة، ولا يعرفون أننا ندفعها من جيوبنا لأصحاب ورش تصنيع الحلي الذهبية».

وحال معظم صائغي دمشق ليس أفضل حالا من الصائغ فادي، فمع ارتفاع سعر الذهب انخفضت حركة بيعه بشكل كبير، حتى أن رئيس «جمعية الصياغ» جورج صارجي، شيخ الصياغ الدمشقيين، والذي تشرف جمعيته مهنيا واجتماعيا على محلات وحرفيي وورش صياغة الذهب في دمشق، يقدّر الانخفاض بنحو 90 في المائة في عام 2009 عن العام السابق له 2008، وهذا يعود إلى أسباب، منها ما يحدده صارجي: ارتفاع سعر الذهب، وعزوف العرسان عن الشراء وبخاصة أن مهر العروس هو الذهب.

ويقول جورج صارجي: «أنا ألاحظ مثلا في أشهر الصيف حيث الموسم الأعلى لبيع المصوغات الذهبية في سورية، بسبب تزايد عدد المتزوجين والمخطوبين، كان يأتينا قبل سنوات في الجمعية (النقابة) نحو 70 علبة لنضع عليها ختم الجمعية (الدمغة المميزة)، لتكون المصوغات معترفا بها في السوق، بينما حاليا لا يأتينا سوى 20 - 30 علبة لنختمها، وهذا دليل انخفاض البيع لدى الصاغة. كما أن الأزمة الاقتصادية العالمية أثرت في حركة بيع المصوغات وبخاصة انخفاض عدد المشترين من المغتربين السوريين في الخارج، الذين كانوا يأتون إلى بلدهم في الصيف ويشترون المصوغات».

ويقول صارجي لـ«لشرق الأوسط»: «يوجد في دمشق 1200 بائع ونحو 600 ورشة تصنع الذهب، بينما يوجد في جميع المناطق السورية 15 ألف حرفي وصائغ ذهب، ويعمل فيها 70 ألف مصمم يدوي ومهني. ولبائعي ومصممي الذهب رحلة مع التنقل عبر أسواق دمشق، حيث كانت لهم سوق قديمة إلى جانب الجامع الأموي، والتي كانت تضم 72 محلا، ولها نظام موحد، حيث تغلق أبوابها أسبوعيا من ظهيرة يوم السبت وحتى صباح الاثنين، ولم يكن هناك سوى هذه السوق، لكنها احترقت قبل خمسين عاما».

وحول شهرة الحرفيين السوريين بصياغة الذهب، قال صارجي: «تعتبر مدينة حلب من أشهر المدن في مهارة صائغيها بإبداع تصاميم للمصوغات. ومن هذه التصاميم المعروفة، والتي تأخذ تسميات محلية: كسر الجفت والكوردون اليدوي، ويعرف في كل دول العالم باسم (السنسال الحلبي)، والذي لا يمكن للآلة الحديثة أن تصنعه، ولذلك لا يمكن تقليده.

وكان الحرفيون يستخدمون التقنيات القديمة في إنتاج المصوغات الذهبية، ومنها وسائل الطي والضغط والتسطيح والتدوير ويستخدمون المطرقة والسندان والملاقط والكازيه والبوري ودواليب السحب، وغيرها. وحاليا صار هناك تطور في تصاميم الذهب حيث باتت الورش المتخصصة تستخدم الكومبيوتر في التصاميم واستخدام الليزر في التصميم حتى ظهرت آلاف الطرز الحديثة في المصوغات، وصار هناك جيل جديد يصمم الحلي الذهبية، مستفيدا من التقنيات الحديثة، كما أن الكثير من تجار الذهب في العالم هم من السوريين، ويتصدرون أسواق العالم، منهم داماس في دبي، حيث لديه 360 محلا في بلدان الخليج العربي، وهناك الأشرفي (طيبة) من مدينة حلب وأيمن حفار (لازورد). ولشهرة الحرفيين السوريين في صياغة الذهب، باتوا مطلوبين للكثير من دول العالم، فهناك منهم من هاجر إلى كندا ونيوزيلندا، حيث يعملون هناك في تصاميم الذهب ويبدعون فيها بشكل فني».

وفي عودة إلى سوق الصاغة القديمة التاريخية، والتي عُرف عدد من صائغيه بإبداعاتهم الكثيرة، ومنهم جورج عبيد، الذي اعتزل العمل قبل سنتين بسبب التقدم في العمر، حيث يقول شقيقه وشريكه في محل الصياغة في السوق إنه «كان من أمهر صائغي دمشق على مدى ستين عاما، وكان يشارك في معارض عالمية بتصاميمه المستوحاة من الحضارات القديمة، ويضع عليها لمساته الجمالية وخياله الإبداعي، ولكنه في السنوات الأخيرة قلت التصاميم لديه، وصار يهتم بإقامة المعارض الضوئية من خلال جولاته السياحية في بلدان العالم للمشاركة في معارض المجوهرات والمهرجانات السياحية، وكان آخرها معرض أقامه في معهد ثربانتس في دمشق». السوق الحالية بمحلاتها القليلة بنيت في أواخر العهد الأيوبي قبلي الجامع الأموي في القيسارية التي أنشئت عام 631هـ، وكانت تقسم إلى قسمين، وهما: الصاغة الجوانية، وفيه يباع اللؤلؤ والجواهر، والصاغة البرانية، وفيه تباع الأساور والخواتم. وازدهرت السوق بشكل خاص في عهد المماليك.