الدرويشية: شارع الحلويات الشعبية الدمشقية وسوق الخشبيات اليدوية

يطل عليه أجمل مسجد عثماني في العاصمة السورية

الدرويشية وجامعها الذي يرمم حاليا («الشرق الأوسط»)
TT

ما إن يصل المتجول في أسواق وشوارع وسط العاصمة السورية دمشق، وتحديدا، الآتي من شارع النصر، إلى سوق الحميدية الشهيرة، فلا بد من أنه سينظر عن يساره وهو أمام مدخل سوق الحميدية. فقبل أن يأخذ السلم الكهربائي ليوصله إلى الجهة المقابلة ومن ثم للحميدية سيقرر كبعض الزوار أن ينعطف يسارا ليستكشف منطقة مزدحمة تنتشر المحلات على جانبيها في تراص غريب فرضه صغر مساحتها وقصر الشارع النسبي الذي يربطها، وهو يمتد من جنوب سوق الحميدية حتى باب الجابية. فعلى الرغم من الطول المحدود لهذا الشارع الذي لا يتجاوز نصف الكيلومتر، فإن الزائر سيكتشف أنه في منطقة من أغنى وأجمل مناطق العاصمة السورية بالأوابد المعمارية التاريخية، خاصة تلك التي تعود للعهد العثماني.

كذلك سيلفت نظره في هذه المنطقة بائعون يعرضون كل ما هو تراثي وشعبي في محلاتهم الصغيرة نسبيا، وسيرى طهاة طعام يشوون لحم الغنم البلدي أمامه وكأنهم يقولون له: تفضل لنقدم لك وجبة من المشويات الشهية. وإذا كانت الزيارة في شهر رمضان المبارك فستكون المتعة في تناول المشويات مضاعفة؛ فمع موعد الإفطار يضع أصحاب المطاعم المحلية الكراسي والموائد على الرصيف المقابل لمطاعمهم لاستقبال الصائمين في وجبتي إفطار وسحور على الرصيف. وإذا ما سار الزائر قليلا في الشارع المزدحم ستستوقفه الرائحة الزكية المنبعثة من محلات الحلويات الدمشقية الشعبية، وسيشاهد أمامه كيف يحضر بائع القطائف مستلزمات هذه الحلويات الشعبية أمامه من عجين وقطر السكر وماء الورد وغيرها، وكذلك يفعل بائع الشعيبيات الذي يعرضها بشكل جميل أمام زوار السوق ليشتروها وليتذوقوا ألذ شعيبية محضرة من القشدة العربية أو محشوة بالجوز والقطر.

وإذا ما نظر الزائر يمنة في مدخل صغير بجوار جدار مبنى تاريخي فإنه سيشاهد كثيرين من الناس يقفون أمام منهل ماء (سبيل) يرتشفون منه الماء بفنجان كبير من الألمنيوم يتدلى من جدار السبيل ومخترقا الحاجز المعدني الذي يفصله عن الناس. هذا الشارع - المنطقة هو شارع الدرويشية، «جار» أهم أسواق دمشق القديمة وساحاتها وشوارعها التي تعود لمئات السنين. والواقع أن «الدرويشية» جادة قديمة تلامس سور المدينة وأحد أبوابه الشهيرة وهو الباب الغربي أو باب الجابية الشهير في التاريخ. وحسب المؤرخين، فإن الجادة كانت تعرف باسم «سوق الاخصاصية» ثم تبدلت التسمية في الفترة العثمانية لتأخذ اسم أحد الولاة العثمانيين، وهو درويش باشا الذي بنى فيها جامعا كبيرا مع مجموعة من المنشآت العمرانية عام 1574م. ومنذ ذلك التاريخ اشتهرت المنطقة ككل ببيع الأدوات الخشبية المصنعة يدويا، مع أنه لم يبق منها سوى عدد قليل مع بعض بائعي كراسي الجلوس المصنعة من القصب الفاخر. فمع تطور حركة البيع والشراء غير كثيرون من أصحاب المحلات اختصاصهم، وتنوعت في ما بعد أنواع تجارتهم؛ ومنها حاليا الألبسة التي تباع بأسعار شعبية رخيصة. كذلك، من أبرز محلات الدرويشية تلك التي تبيع الحيوانات والطيور المحنطة. من الناحية المعمارية، كانت منطقة شارع الدرويشية تضم كثيرا من الأوابد التاريخية التي تهدم بعضها بسبب تنظيم المنطقة في منتصف القرن العشرين المنصرم أو بسبب القصف الفرنسي إبان الثورة السورية الكبرى عام 1925م. ومن أبرز تلك الأوابد «حمام الملكة» وكان - حسب المؤرخ قتيبة الشهابي - من أشهر حمامات دمشق وأكثرها جمالا، وفيه قاعة واسعة تعلوها قبعة مرتفعة، وبني عام 1723م. ولكن عام 1925 أصيبت قبته بقذيفة مدفع أطلقت من حي المزة، ومن ثم رمم الحمام، وواصل عمله إلى أن هدم عند فتح الشارع خلف القصر العدلي في مطلع خمسينات القرن المنصرم.

ومن أوابد الشارع مقر الجريدة العسكرية العثمانية التي كانت قائمة في منزل دمشقي تقليدي، وهدمت أيضا عند تنظيم المنطقة، كما هدمت أيضا معالم أخرى منها جامع «السياس»، الذي عرف أيضا باسم «القصاصي»، وسمي «السياس» نسبة لساسة الخيل. وكان آخر معلم هدم في المنطقة سينما النصر التي أخذت تسميات كثير، منها «سينما راديو» و«مسرح النصر»، الذي قدم على خشبته الممثل الكوميدي السوري الراحل عبد اللطيف فتحي أهم مسرحياته. ولقد هدمت السينما عند تنظيم المنطقة عام 1983م. في المقابل، بقي من معالم الدرويشية حتى الآن المدرسة السيبائية، التي تسمى أيضا «جامع الخراطين» وهي تعود للعصر المملوكي عام 1515م، وبناها نائب الشام الأمير سيباي. غير أن المعلم الأبرز في المنطقة حتما هو جامع الدرويشية الذي يخضع حاليا لأعمال ترميم تطال قبابه ومئذنته وصحنه الواسع. ويتميز هذا الجامع الذي أعطى اسمه للشارع وللمنطقة كلها بأنه من أجمل مساجد دمشق العثمانية وأكبرها. فهو يعتبر بحق نموذجا ممتازا لفن العمارة العثمانية من حيث التخطيط والقواعد المعمارية والفنية. كما أنه يتميز بسبيل مائه الشهير بكتابة تركية على واجهته تؤرخ للسبيل والجامع، وبلوحة من فن القاشاني المميز على عمارة السبيل الواقع على الجدار الشمالي للجامع. وما زال السبيل يستقبل العابرين العطشى ويقدم لهم كوب ماء. وفي مفردات مبنى الجامع المعمارية، كما يصفه كثير من المؤرخين ومنهم الدكتور عبد القادر ريحاوي، نلاحظ أن صحنه مستطيل الشكل تتوسطه بركة حجرية مضلعة. أما الرواق فيقع في جنوب الصحن وتتقدمه خمس قناطر محمولة على أعمدة مستديرة ذات تيجان وقواعد مختلفة. ويعلو الرواق خمس قباب صغيرة، وفي الجدار الجنوبي من الرواق محراب مزين بألواح القاشاني. أما الحرم فهو عبارة عن قاعة كبيرة مستطيلة الشكل تغطيها سبع قباب مستديرة تقوم القبة الكبرى في الوسط، ويتوسط المحراب إطارات هندسية عريضة من الرخام الأبيض والأسود. وأما المنبر فمصنوع من المرمر وأهم ما فيه قبة الخطيب المبنية على أربع دعائم رشيقة يعلو كلا منها قوس مدبب تكتنفه زوايا مزخرفة.

ومن مزايا جامع الدرويشية اللافتة أنه مزين بالزخارف الرائعة من بابه إلى محرابه بأشكال وأنواع مختلفة. وعن المئذنة، فإنها شيدت فوق المدخل، وتضم قاعدة مربعة الشكل تتحول إلى شكل مثمن ينتهي بشرفة مقرنصة ثم مظلة مخروطية من الرصاص. والداخل للجامع من بابه الرئيسي سيرى فوق الباب كتابة تاريخية منقوشة هي عبارة عن أبيات شعر، وكالعادة في أبيات التأريخ، ورد تاريخ إنشاء الجامع في البيت الأخير من الكتابة مرتبا وفق «حساب الجمل».