حمام ساحة شارع محمد الخامس.. قبلة أنظار الأطفال

يستفيد منه المصورون ويقتات منهم في قلب الرباط

المصور ينثر الحبوب للحمام والطفلة تتأمل الطائر الأنيق (تصوير: عبد اللطيف الصيباري)
TT

في قلب العاصمة المغربية الرباط، وتحديدا قبالة مبنى البرلمان، تقوم علاقة تبادلية حميمية منذ سنوات بين الحمام الذي يحط في شارع محمد الخامس، والمصورين الفوتوغرافيين الذين يسعون وراء رزقهم في الشارع. فالحمام يأكل من كفوف المصورين والمارّة، والمصوّرون يلتقطون صورا تذكارية لهؤلاء المارة.. وخاصة لأطفالهم.

الحمام، كما هو معروف، من الطيور المستأنسة التي يألفها الإنسان وتألفه، وهو يعيش مطمئنا حيث يوجد الناس. وتقول بعض الدراسات العلمية إن الحمام وجد على الأرض منذ 20 مليون سنة. ومنذ آلاف السنين، شرع الإنسان في اصطياد الحمام سواء للأكل أو للتسابق أو لنقل الرسائل. وينتشر الحمام في جميع أنحاء العالم، حيث يعد المثل الناصع للحب والوداعة والسلام والتعاون بين الشريكين. وعندما يتزوج زوجا الحمام تستمر علاقتهما مدى الحياة. ويعتقد كثيرون أن وجود الحمام في المدن يعطيها روحا، ويضيف إليها مشهدا بهيا يزيل الكآبة.

أما في المغرب، فهناك عدة أنواع من الحمام، منها ما يطلق عليه مسمّى «حمام الشوارع» الذي يعيش على أسطح المنازل وشرفاتها، ومنها «الحمام البري» الذي يعيش في المزارع ويأكل من ثمارها، وهو نوع غير مرغوب فيه من قبل المزارعين. والنوع الأخير هو الحمام المنزلي الذي يربّى في البيوت. لكن حمام قلب الرباط له صفة خاصة، بل قل تخصّص فريد، ذلك أنه يقتات ويوفر الرزق أيضا. فهو، حيث يعمل برفقة المصورين، يستعرض جماله بهدوء بالقرب من زوار المكان، مانحا الفرصة للمصور لالتقاط صور له مقابل «أجر» يتقاضاه الحمام على شكل فتات قمح من يد المصور.

وهكذا، نشأ بين الجانبين حوار صامت وألفة وأنس تحول إلى عيش تكاتفي وإقرار بالجميل. والحقيقة أن الحمام يتفوق على باقي الطيور لحبه للمكان الذي تربى فيه، كما يعرف عنه الوفاء للأمكنة والناس، ويتمثل ذلك في أنه يعود بين الفينة والأخرى إلى رؤية الشخص الذي أطعمه.

من بين المصورين، الذين يعملون برفقة الحمام وسط شارع محمد الخامس ومنذ ما يربو على ربع قرن، العربي الحطيب، وهو رجل عصامي يقطن في الرباط منذ سنوات طويلة، ولقد أمضى ثلاثة عقود وهو يمارس مهنة التصوير وسط الحمام، إلى حد باتت معه مهنته كمصور تتداخل وتتقاطع مع عمله كمربٍّ للحمام.

يقول العربي لـ«الشرق الأوسط» في حوار معه «منذ عام 1965 وأنا أمارس هذه المهنة. قبل عام 1982، كنت أعمل في ساحة صومعة حسان التاريخية بالرباط، ومنذ إعادة تصميم شارع محمد الخامس بوسط الرباط انتقلت للعمل هنا».

وحول تفاصيل علاقته مع الحمام، يقول: «الحمام يبحث دائما عن الماء، وقد وجده في نافورات شارع محمد الخامس. وأنا، أيضا، ألفت الساحة وصار لدي موعد يومي مع الحمام، ذلك أنني أستيقظ كل صباح، وأول شيء أفعله هو تحضير طعام الحمام، لأنه يحتاج إلى تنوّع في الغذاء. ومن أغذية الحمام المعروفة القمح والذرة البيضاء والدَّخن وكذلك العدس. وبعد ذلك، أحمل الكاميرا وأنتقل إلى الساحة، حيث يحط الحمام في شارع محمد الخامس. أحيانا، أجدها فارغة من الناس لكن حميمية اللقاء مع الحمام يكفيني». ويصف العربي ما يقوم به قائلا: «حين أنثر أولى حبات القمح يقبل نحوي الحمام، ثم لا يلبث أن يلتقط الحبات من كفّي. في هذه اللحظة، أشعر أن الحمام يلقي عليّ التحية، فأبادله التحية بتقديم المزيد من الحبوب». ويضيف بلهجة الناصح: «إذا أردت أن يحبك الحمام فيجب عليك أن تحبه أولا ثم تعتني به. وأنا أتعامل معه، كصديق حميم، أستمتع بالوقت الذي أمضيه رفقته. وعندما لا يكون هناك زبائن أتأمل تنوّعه وريشه وألوانه».

وحول دخل المصور مثله من التقاط صور لمرتادي الشارع وملاطفي الحمام، قال العربي: «تراجع مدخول هذه المهنة، لأن الزوار يحضرون هذه الأيام معهم آلات تصويرهم الخاصة بهم.. لكنني اعتدت ممارسة التصوير، وصرت أعتبره هواية أكثر منه مهنة». نبرات صوت العربي الحطيب وتعابير وجهه، الذي يطفح بالبِشر وهو يحكي قصته مع الحمام، توحي بعلاقة حب متبادل بين هذه الطيور ومصور بسيط ظل صامدا في هذه الساحة على الرغم من قسوة الحياة، وهو على الرغم من تقدمه في السن يبدو مصمما على إكمال مشوار الحياة مع هذا «الحبيب» الأليف.

من ناحية ثانية، اعتاد سكان الرباط زيارة هذا المكان، ولا سيما في المناسبات والأعياد، حيث تعتبر الساحة الواقعة في شارع محمد الخامس متنفسا لسكان العاصمة. وكثيرون منهم يدفعهم الفضول للاقتراب أكثر من طيور الحمام والتقاط صور معها. وعادة ما يتزاحم الأطفال على المكان، وهم أكثر سعادة عندما يقتربون من أسراب الحمام وهي تطير وتحط أمامهم، وبفضول الصغار وبراءتهم وتوقهم للاستكشاف تراهم يتسابقون على تقديم الطعام لهذه الأسراب أملا في كسب ود حمائمها، ثم يستمتعون بملامسة ريشها برأفة ورقة، ثم تأخذهم الرغبة في اللعب فيحاولون اللعب مع هذه الطيور والجري خلفها. ومنهم من في خياله، بلا شك، الأنشودة التي طالما رددها في المدرسة «أم الحمام مرة قالت لهم لا تخرجوا.. قالت لهم في عشها لا تخرجوا لا تخرجوا.. لكنهم خرجوا ولم يبالوا بالخطر.. إلخ». وعودة إلى العربي الحطيب، فهو مساء كل يوم، عندما تخلو الساحة من المارة والزوار، يودّع الحمام ويجمع أغراضه ليعود أدراجه إلى منزله.

وبدوره، يرحل الحمام عائدا إلى «بيته» فوق سطح المباني القريبة من الساحة والأسوار التاريخية للرباط، وبخاصة أن الحمام يفضل بناء عشه أو وكنه في مكان مكشوف ومعرض لأشعة الشمس، لذلك يفضل فناء المنزل أو السطح.

وفي صباح اليوم التالي، يبدأ يوم جديد وفصل جديد في علاقة العربي الحطيب مع حمام ساحة شارع محمد الخامس في العاصمة المغربية.