سورية: «العرضحالجية» مهنة عمرها مئات السنين تشهد تغيرات سريعة

مستلزماتها خط جميل ودراية بالقوانين وطاولة وكرسي وأوراق بيضاء وقلم أزرق

عرضحالجي دمشقي يعمل بجانب إحدى المؤسسات العامة («الشرق الأوسط»)
TT

يصف البعض مهنتهم بـ«السهل الممتنع» ويعتبرها آخرون «مهنة من لا مهنة له» لسهولة العمل بها.. إذ يكفي مزاولها إجادة الكتابة والقراءة، والخط الجميل، ومعرفة كسب الناس، والعلاقات العامة، مع شيء من الدبلوماسية والكلمات الجذابة، ومعرفة بعض مفردات القوانين والتعليمات الناظمة في المؤسسات الحكومية. ومهما اعتبرهم الآخرون وأطلقوا عليهم من صفات.. فهم يعتبرون أنفسهم «أنصاف محامين» ويرون المهنة من أكثر المهن المجتمعية انتشارا وفائدة.

إنهم «العرضحالجية»، كما يعرفهم كثيرون، أو «معقبو المعاملات»، كما تصفهم الجهات الرسمية في سورية، التي حاولت منذ سنوات تنظيم مهنتهم والترخيص لها بشكل نظامي، وضمن شروط حضارية يزاولون من خلالها عملهم. وقد انضم معظمهم إلى جمعية حرفية ترعى شؤونهم وأمورهم تتبع اتحاد الحرفيين السوريين، ولا سيما أن عددهم يقدر بالآلاف، وهم موجودون في كل شارع ومنطقة وسوق بدمشق، والمدن السورية، وحتى النواحي والقرى التي توجد فيها بلديات.

مهمتهم عرض خدماتهم على مراجعي هذه المؤسسات وكتابة العرائض والطلبات حسب رغبة المراجعين، والحاجة التي يريدونها من هذه الدائرة أو تلك. وأي زائر لهذه الدوائر سيشعر مباشرة بوجودهم حوله، بل سيعرفهم مباشرة من خلال التقنيات البسيطة والمستلزمات القليلة التي يتعاملون بها. إذ يكفي الواحد منهم طاولة صغيرة وكرسي بسيط.. وطبعا بعض الأوراق البيضاء، وقلم يكتب بالحبر الأزرق فقط، ومظلة تقي من حر الصيف ومطر الشتاء. فـ«مكاتبهم» الأرصفة قرب جدران الدوائر والمؤسسات.

علي بدر (أبو حيان)، وهو «عرضحالجي» يعمل منذ ربع قرن متنقلا بين رصيف السجل العقاري والقصر العدلي ودوائر الخدمات بدمشق، التقته «الشرق الأوسط» فقال شارحا: «المطلوب منا أن نكتب العريضة للمواطن المراجع، وبشكل نظامي، ملبية للغرض حتى تسير بشكل جيد وتنال الموافقة من الدائرة الموجهة إليها. ولذلك كل ما نحتاجه مستلزمات بسيطة. الأهم هنا أن نكون على دراية بالقوانين والتعليمات الناظمة للمؤسسات التي نعمل بجانبها، وذلك كي نشرح على المعروض طلب المراجع، والطلب نطلق عليه مسمى «استدعاء»، للحصول على رخصة تشييد منزل من البلدية، مثلا، أو طلب عقد قران أو طلاق أو نفقة لمطلقة، وغيرها في ما يخص مراجعي محاكم القصر العدلي. وفي هذا المجال نحن لا نكتب العريضة فقط، بل نساعد الشخص وندله على الطريق الذي سيسلكه لإنجاز معاملته، وخاصة أنها حالات إنسانية».

وسألناه عن سبب غياب الكومبيوتر في عملهم، فأجاب «يا أخي نحن عرضحالجية ولسنا منظمي معاملات كبيرة، ومع هذا، البعض من زملائنا يستخدمون الكومبيوتر، ولكن هؤلاء يملكون مكاتب خاصة، أو يعملون لدى محامين، وإن كانوا لا يجيدون استخدامه تراهم يوظفون شبابا من الجيل الجديد يجيدون العمل على الكومبيوتر مقابل مبلغ مادي يدفعونه لهم. ولكن هؤلاء الزملاء يكون لديهم معاملات كبيرة تحتاج لأوراق كثيرة ومتابعة في المؤسسات.. أما من يجلس بجانب المؤسسات، أمثالنا، فليس بحاجة للكومبيوتر، ولا نعرف العمل عليه، فقد تعودنا على الكتابة بخط اليد». وتابع بعدما عرض أمامي عريضة يكتبها لشخص يريد الحصول على موافقة لترميم منزله «أليس خطي أجمل من خط الكومبيوتر؟ أنا لا أحمل الشهادات العالية، ولكن منذ دراستي في الابتدائية والإعدادية كان خطي جميلا.. وهذه هبة من رب العالمين، فلماذا أدخل الكومبيوتر في عملي؟!».

وأترك أبو حيان ضاحكا، وألتقي سمير الخطيب، وهو عرضحالجي من جيل الشباب، يوافق على أهمية الكومبيوتر للإسراع في إنجاز العمل والمعاملات. سمير دخل المهنة قبل 15 سنة، وعن خبرة ودراية بعدما علمه أصولها خاله الذي عمل بها لمدة أربعين سنة. ويقول سمير: «حاولت أن أطور العمل بمهنة العرضحالجية من خلال استخدام الكومبيوتر وفتح مكتب صغير في دمشق أزاول العمل فيه في المساء، بينما في الصباح وحتى الظهر يجب أن أكون موجودا بجانب دائرة النفوس حيث أكتب العرائض للناس، ومن ينتظر لليوم التالي أتولى مساء كتابة أوراقه بواسطة الكومبيوتر في مكتبي، ويعود المراجع في اليوم التالي ليجد معاملته وطلبه جاهزين. ولكن هناك من يكون مستعجلا، مما يعني أن علي كتابة العريضة بخط اليد». وتابع سمير الخطيب قائلا: «مهنتنا تطورت بشكل مقبول في السنوات العشر الأخيرة، ودخلها الآلاف من الشباب المتعلم والمثقف، وتغيرت النظرة إليها. فكان البعض يعتبرها مهنة متطفلة على باقي المهن، وليس لها ضرورة بوجود المحامين ومساعديهم، ولكن ثبت لكثيرين أنه لا يمكن الاستغناء عن العرضحالجي لأسباب كثيرة، منها أنه يسهل إنجاز طلبات المراجعين ولا يأخذ مقابل ذلك أجرا كبيرا، بل يرضى بالقليل. كذلك جرى تنظيمها من خلال الانتساب للجمعية الحرفية، ومنح العرضحالجي رخصة (معقب معاملات) بعد أن يتبع دورة متخصصة في مجال كتابة العرائض وتنظيمها والخضوع لاختبار رسمي. والدوائر المعنية لا تتعاون مع أي (معقب معاملات) ليس معه الرخصة، ومن لا يمتلكها سيضطر للعمل والتدرب لدى عرضحالجي لديه رخصة والعمل معه». ويلاحظ سمير أن هناك إقبالا من الجيل الشاب على مزاولة هذه المهنة، لأن عائداتها المادية جيدة، وثمة مؤسسات خدمية منحت «معقبي المعاملات» أكشاكا لديها لمزاولة المهنة فيها بشكل قانوني ونظامي، مقابل دفعهم مبالغ مادية شهرية للدائرة من استثمارهم الأكشاك، «وهذا أفضل من منظر العرضحالجية وهم تحت مظلاتهم على الأرصفة المجاورة للدوائر والمؤسسات المعنية بخدمات الناس».

ومن جيل الشباب أيضا، عماد الكاتب، الذي يعمل في المهنة منذ خمس سنوات ويحمل الشهادة الثانوية. عماد قال إنه دخل المهنة ريثما يستطيع تأمين عمل دائم في مؤسسات حكومية أو خاصة، لكنها أعجبته لأنه يلتقي يوميا بالناس والمراجعين ويعتبرها «مهنة جميلة واجتماعية وإنسانية». ثم يقول: «كانت تعتبر في الماضي مهنة المتعلمين والمثقفين، فالعرضحالجي وجد منذ مئات السنين لخدمة الناس، وليكون صلة الوصل بينهم وبين المؤسسات العامة الخدمية لتسهيل معاملاتهم، وكان ينظر له على أنه شخص مهم في المجتمع ويعادل في مرتبته مرتبة الموظف والمعلم، وكان في القرن السابق وحتى الخمسينات منه يتميز بلباسه الخاص وهو البذلة الرسمية والطربوش على رأسه، ويفرض احترامه على الناس لحاجتهم له. ولكن تغيرت النظرة له لاحقا، قبل أن تخضع المهنة للتنظيم في أواخر القرن المنصرم بسبب دخول المتطفلين عليها».