الزعيمة.. تقتنص عرش تجارة «فلاتر السيارات» من الرجال

درست السينما وزاملت إلهام شاهين وليلى علوي

ورث أم هايدي وأخواتها عن أبيهن شركة الإنتاج، وحب السينما، ومعدات قدرت بخمسة ملايين جنيه وقتها («الشرق الأوسط»)
TT

على وقع «تكتكة» شريط السينما، ووسط «تزاويق الأفيشات» ولدت وعاشت، فأبوها المنتج والمخرج كمال صلاح الدين. كانت تؤهل نفسها لحفر اسمها بجانب النجمات، تتصدر صورها الأفيشات، وتقطع طلتها ملل المشاهدين بين الحين والآخر لتعلن عن عمل جديد لها. دخلت إلى معهد الفنون المسرحية، اقترب الحلم، اشتركت في أعمال تلفزيونية بأدوار صغيرة منها «أخو البنات» لمحمود ياسين، و«ألف ليلة وليلة»، زاملت إلهام شاهين وليلى علوي في بداية المشوار، ثم استكشفت أن طريقها الفني سينتهي بها مجرد ممثلة عادية. تزوجت من رجل أعمال ثري وتركت المعهد والتمثيل وتفرغت لبيت الزوجية.

تتذكر أم هايدي أو «الزعيمة» كما يطلق عليها الآن في سوق «فلاتر» (مصافي) السيارات والمعدات الثقيلة، طريقها نحو البيزنس، وتقول «كان أبي ميسورا، أنجب سبع بنات وتبنى ثلاثا. كان بيتنا ملتقى للنجوم، وهو بدوره لم يكن يدخر جهدا في اكتشاف المواهب، قدم سعاد حسني في أول أفلامها، ومحمد رشدي، وسهير رمزي. كان سعد الدين وهبة وزوجته سميحة أيوب يأتيان له باستمرار كي يرشح أفلاما من إنتاجه للمهرجانات، والمرة الوحيدة التي زار فيها أميتاب باتشان مصر كانت عن طريق والدي، لكن مع وفاته انتهى كل شيء».

ورث البنات عن أبيهن شركة الإنتاج، وحب السينما، ومعدات قدرت بخمسة ملايين جنيه وقتها، لكن الرياح أتت بما لا يشتهين، وهدمها على رؤوسهن رئيس تحرير لجريدة قومية، أراد الاستيلاء على المقر كي يوسع من مبنى صحيفته.. ترك المياه حتى أغرقت المقر، وضاعت المعدات، ولم تجن الأسرة سوى 170 ألف جنيه تعويضا، وضاعت الشركة، وضاعت معها بهجة الأحلام.

كانت أم هايدي تعيش ميسورة ومستقرة، لكن ذات يوم مشؤوم دب خلاف حاد مع زوجها فترك في غباره منزل الزوجية وهرب. فتشت في مرآة نفسها، لم تجد سواها مسؤولة عن ابنة وولد في مراحل التعليم، وتبخرت سريعا مدخراتها القليلة. بعد ثلاث سنوات من الطلاق فُرض عليها التحدي، كانت مسؤولة عن ابنيها وأخت مصابة بالسرطان وأخرى بالفشل الكلوي وأم مريضة بالسرطان أيضا، لم تكن تملك إلا محلا ورثته عن والدها بوسط القاهرة كانت تخطط أن تتركه لابنها يعينه على الزمن.. ذات مساء فتحته، وبدأت تتأمل الجدران، وعقدت عزمها على مواصلة الرحلة من جديد، من درجة الصفر. بحسب وصفها كان المحل مقرا هادئا للعناكب والفئران و«العِرس»، لم تكن تملك مليما تشتري به بضاعة وتبيعها فيه، كما افتقدت الخبرة وشراسة السوق، وحيل العرض والطلب. ما طمأنها في البداية ثقة جيرانها من التجار فيها، كانوا يعرفون والدها، ويطمئنون لكونها مالكة للمحل، نصحوها بالتجارة في «الفلاتر»، وأمدوها ببضاعة «بالآجل» تسدد ثمنها فور الانتهاء من بيعها.

تقول أم هايدي أو «الزعيمة» كما يطلق عليها الآن وسط القاهرة «لم يكن الطريق مفروشا بالورود.. وكما ساعدني البعض سلط علي بعض المنافسين السلطات، وتفننوا في كتابة الشكاوى لمصلحة الضرائب وللتموين، لكنهم هدأوا بعد ذلك لأن أوراقي كلها مضبوطة. كنت حريصة على تسديد كل ديوني فور الانتهاء من البيع، فأنا امرأة، و«الحرمة مالهاش البهدلة»، وكنت أرجع بالقليل إلى البيت راضية قانعة. ودارت الدائرة وراجت البضاعة، والحمد لله».

يضم المحل بما قيمته 200 ألف جنيه بضاعة كلها بالآجل، لكنها تمكنت من تكوين ثروة تقارب ثلاثة أضعاف قيمة البضاعة الحالية، تذهب للمحل في العاشرة صباحا، وتباشر البيع والتعامل مع مندوبي الشركات وتحصيل أثمان البضاعة المباعة حتى الحادية عشرة ليلا، وتسدد ديونها وترجع إلى ابنيها».

تجاهد «الزعيمة» كي تربي ابنيها «أحسن تربية»، دخلت هايدي الجامعة البريطانية بمصاريف باهظة سنويا، بينما لا يزال الولد في المرحلة الإعدادية، كما ترعى أمها وأختيها المريضتين، فلم يتبق من معاش الأب الشهري سوى 300 جنيه «لا تكفي للخبز فقط» بحسب تعبيرها، وفي كل عام ومع رواج البضاعة وسداد الديون تشعر بالراحة والرضا فتكافئ نفسها برحلة للأراضي المقدسة تؤدي العمرة، وتشحن روحها بنفحات القرب من الحبيب المصطفى لسنة قادمة.

حاولت «الزعيمة» كثيرا استعادة الماضي، لكن ما مضى لا يعود، فحق الأداء العلني لأفلام والدها لا تستطيع نيله من التلفزيون المصري، لأنه يتطلب بطاقة ضريبية، والشركة تم فضها، ولا يوجد لها مقر الآن، ومن الصعب أن تستخرج بطاقة جديدة تحاسب على أساسها، ونشاطها الإنتاجي متوقف.

«الزعيمة» هكذا تعتلى اللافتة محلها بشارع رمسيس بوسط القاهرة، تقف شامخة وسط أباطرة التجارة وغيلان السوق.. لا تنسى أبدا إرث أبيها الضائع على بعد خطوات من مملكتها الصغيرة، تستعيد ذكراه بين الحين والآخر، توزع ابتساماتها على جيرانها وزبائنها، تحنو على صناديق «الفلاتر» بيديها كأنها تناجيها، ثم تتحول وداعتها إلى شراسة نمرة، وهي تحارب من أجل حق يكاد يضيع وسط مشاكسات التجار، تصرخ مجلجلة «ده قوت ولادي ومش هافرط فيه أبدا».. ثم تبتسم وهم ينصاعون لغضبها، وكأنها فرمانات صادرة من ملكة أو سلطانة، تعرف قدر نفسها.