أهل حمص يبتكرون مناسبات احتفالية خاصة بهم

بجانب شهرتهم بالنكات والفكاهة

شارع القوتلي أحد شوارع وأسواق حمص الرئيسية
TT

تعتبر مدينة حمص السورية، التي تبعد عن العاصمة دمشق شمالا نحو 150 كلم، «عاصمة الفكاهة السورية»، إذ اشتهر أهلها منذ القدم بإطلاق النكت اليومية المسلية، وبسبب روحهم المرحة وتميزهم بالذكاء والطيبة في آن واحد، فإنهم دأبوا على إطلاق النكت حتى على أنفسهم. وبالتالي، تقبل النكت بروح مرحة عندما يؤلفها آخرون عليهم، بل وتراهم يتداولونها ويتندرون بها في مجالسهم وسهراتهم. ولقد تناول عدد من الباحثين هذه الميزة لدى «الحماصنة»، وذهب بعض المهتمين إلى اقتراح إقامة مهرجان سنوي للضحك والنكت والفكاهة تحتضنه حمص كل سنة.

إلا أن الشيء الآخر الذي يتميز به أهل حمص، ومن باب الفكاهة أيضا، اعتبار يوم الأربعاء من كل أسبوع «عيدا»، مع محاولات بعضهم تفسير ذلك تاريخيا منذ غزو تيمورلنك المدن السورية ونجاة مدينتهم منه بفضل ذكاء أهلها واستخدامهم الحيلة.. وكان ذلك يوم أربعاء.

ولكن، في الحقيقة لـ«الحماصنة» بالفعل مناسبات خاصة بهم يحتفون بها ويتفردون بها عن غيرهم من سكان المدن السورية، عدا عن نظرتهم ليوم الأربعاء، إذ إنهم يحتفون بيوم الخميس، وهذا تقليد قديم درجوا عليه.

إنهم يحتفلون بسبعة أيام خميس في كل عام تبدأ من الخميس الأخير من يناير (كانون الثاني) وتنتهي بالخميس الثاني من أبريل (نيسان). وعليه سيحتفل «الحماصنة» يوم الخميس المقبل الموافق 8 أبريل بآخر يوم خميس هذا العام، ويسمونه «خميس الحلاوة». أما أيام الخميس الستة السابقة فتحمل تسميات تتناسب وطبيعة الاحتفال بها، وهي: «خميس الضايع» و«خميس التايه» و«خميس الشعنونة» و«خميس الفطاحل» و«خميس النبات» و«خميس المشايخ». ويفسر الباحثون من أهل حمص تقاليد هذه المناسبات الحمصية بأنها تأتي لوداع فصل الشتاء واستقبال فصل الربيع، ولذاك خصصت الخميسات الأربعة الأولى - أي «الضايع» و«التايه» و«الشعنونة» و«الفطاحل» - للاحتفال بانتهاء الشتاء وبرده القارس، ولا سيما أن مدينة حمص من المدن التي تتسم بطقسها البارد شتاء ومناخها المعتدل صيفا. وهذه المحطات الزمنية الأربع تنتهي عادة مع منتصف شهر مارس (آذار)، ليبدأ بعدها «الحماصنة» تمتعهم بالخميسات الثلاثة الأخرى التي تأتي متزامنة مع قدوم فصل الربيع، وخروجهم للتنزه في مناطق النزهة حول مدينتهم كالميماس بجانب نهر العاصي وغيرها.

هذا، وإن كانت أهمية الاحتفال بالخميسات السبعة تراجعت نسبيا في السنوات الأخيرة، خاصة لدى الأجيال الجديدة من «الحماصنة»، فإن نسبة لا بأس بها من كبار السن ما زالت تحترم هذه المناسبات المحلية، وعلى رأسها ما يسمونه «عيد الحلاوة»، وفيه يعدون نوعا خاصا من الحلوى المصنوعة من السميد له لونان أبيض وأحمر، يشترونه من محلات الحلويات ويوزعونه عن أرواح أمواتهم في تقليد ما زال مستمرا في الخميس الثاني من أبريل. ويبرر بعضهم استمرار هذه الممارسة في رغبة تجار المدينة بتسويق منتجاتهم من الحلويات وبيعها لأكبر عدد من الناس.

وحول المناسبات الخاصة بـ«الحماصنة» وتقاليدها وتاريخها، التقت «الشرق الأوسط» مصطفى الصوفي، الذي يشغل موقع مدير ثقافة محافظة حمص، ولديه كتاب عن عادات أهل حمص ومناسباتهم ولا سيما يوم الخميس، وقال شارحا: «أنا لست مع تسميتها بأعياد، على الرغم من أن الباحث الفرنسي جان بيلون ألف كتابا قبل عشر سنوات حول ذلك وأطلق عليه عنوان (الأعياد الربيعية القديمة في حمص)، وهي تسمية خاطئة في رأيي. ولقد حاول بيلون في كتابه ربط هذه الأعياد بطقوس قديمة وبحث في جذورها، لكنه لم يصل إلى نتيجة مقنعة. وحسب دراساتي ومعايشتي لتقاليد أيام الخميس فإنني أطلق عليها مسمى (مواسم أو مناسبات ربيعية)، ونسميها في حمص (خمسانات)، وهي سبعة تبدأ في أواخر يناير وتنتهي بعد الفصح والصوم الكبير عند المسيحيين في منتصف أبريل. وفي التراث تنتهي هذا المناسبات بـ(خميس المشايخ) وقبله (خميس الحلاوة) وقبله (خميس النبات)... وكان هناك (خميس القطاط) وغيرها».

ويتابع الصوفي: «... غير أن هذه الممارسات الاحتفالية لم تعد موجودة حاليا باستثناء (خميس النبات) وهو عادة يكون مع انطلاقة فصل الربيع. وكان أهل حمص يخرجون بشكل كبير إلى المناطق الخضراء والبساتين. وكان من عادة الصبايا قطف الورد والنباتات البرية وأخذها إلى منازلهن ووضعها في الماء لفترة من الوقت ثم الاستحمام بالمياه المنقوع فيها الورد. ثم في صباح اليوم التالي (أي يوم الجمعة بعد خميس النبات) تخرج الصبايا إلى منطقة القلعة بوسط المدينة، فيتجمعن حول بئر قديمة في القلعة تدعى (جب الحظوظ)، راجيات منها أن تهبهن الحظ الجيد في حياتهن المستقبلية».

ويضيف الصوفي: «... غير أن هذا غدا كله من الماضي، وتحديدا، منذ الاحتلال الفرنسي في عشرينات القرن المنصرم عندما احتل الفرنسيون القلعة ومنعوا الناس من الاقتراب منها ومن (جب الحظوظ). وهكذا انتهت هذه الممارسة الفلكلورية الجميلة، وبقي طقس السيران (أي النزهات) الحمصي في (خميس النبات) والجلسات الشعبية مع تناول الموالح وأكل الخس، التي كانت مستمرة حتى قبل عشر سنوات. وأتذكر أنني كنت أخرج مع أهلي للجلوس على ضفاف الأنهار في الميماس وفي مناطق حمص الجميلة مثل باب عمر والساقية في الطقس الربيعي الجميل. أما (خميس الحلاوة) فممارسته الفعلية الباقية اليوم هو صنع تجار الحلاوة (الحماصنة) الحلوى وبيعها للناس. وهي تسمى (الحلاوة الخبزية) ولونها أحمر وأبيض. وأخيرا دخلت أنواع حلاوة أخرى توزع معها ابتكرها صانعو الحلاوة (الحماصنة) كالبشمينا والسمسمية. وغدت هذه الحلوى نوعا رائجا من التجارة، ولذا استمر الاحتفال بـ(خميس الحلاوة)، مع أن عادة التوجه إلى المقابر لتوزيع الحلاوة عن أرواح الأموات، تراجعت كثيرا، وبالأخص في السنوات العشر الأخيرة، وصار الناس يشترونها ويذهبون بها إلى منازلهم لأكلها يوم (خميس الحلاوة)». ثم يوضح الباحث الحمصي: «الخمسانات وطقوسها ابتكار حمصي باستثناء (خميس المشايخ)، والظريف هنا أن حمص وحدها هي المستمرة في هذه الممارسات الاحتفالية، وعلى الرغم من محاولة بعض المدن تقليدها فإنها فشلت، وحافظ (الحماصنة) ولو على (خميس الحلاوة) والنزهات في طقس (خميس النبات)».

أما عن «خميس المشايخ»، فيؤكد الباحثون أنه كان يحتفل به بصورة ضخمة، وكان يعتبر شيخ «الخمسانات»، إذ كانت شوارع المدينة تشهد مواكب لمشايخ الطرق الصوفية، وكان الأهالي يتجهون في ذلك اليوم إلى سهل الميدان، وموقعه بين القلعة ومحطة القطار حيث تبدأ مواكب الشيوخ يتقدمها السنجق «العلم» وتحت ظلاله تسير «النوبة» وهم ينشدون الأذكار والتواشيح والقدود. ويتحول «خميس المشايخ» في آخر النهار إلى دبكات واحتفالات شعبية. وعلى الرغم من أن «خميس المشايخ» كان معروفا في أماكن أخرى من سورية، منها ضاحية برزة قرب دمشق، كذلك مدينة حماة الواقعة إلى الشمال من حمص، فإنه انتهى هناك منذ عشرات السنين وصمد في حمص وحدها، وإن بصورة أضعف وأقل احتفالية، وكاد يندثر في خمسينات القرن الماضي. هذا، ويجزم عدد من المهتمين أن لـ«خميس المشايخ» مدلولا تاريخيا بدأ منذ مئات السنين واستمر إحياء لانتصارات صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين.