«بيوت الشَّعر» في شمال أفريقيا على وشك الانقراض

مع تغير الظروف.. والانتقال من حياة الترحال إلى الاستقرار

خيمة عصرية في مدينة مرسى مطروح بمصر حلت محل «بيوت الشَّعر» التقليدية (تصوير: عبد الستار حتيتة)
TT

يفتتح حسين ورشته في الصباح الباكر بمدينة مرسى مطروح شمال غربي مصر ليدير الماكينة ويفرد على جانبيها القماش الطويل الثقيل. إنه يصنع مجموعة جديدة من الخيام - خمس أو ست - في مدة لا تزيد على نصف نهار. وقبل نحو ثلاثين سنة كانت صناعة خيمة شعر واحدة تتطلب عمل عشرين امرأة وفتاة من سكان نجع من النجوع المنتشرة في صحارى مصر وليبيا وحتى تونس.

وتوقفت إلى حد كبير الصناعة اليدوية لهذا النوع من خيام الشعر التي كان يسكنها العرب الرحل في شمال أفريقيا. وحتى سنوات قليلة كانت بعض الأسر التي استقرت في البيوت الإسمنتية على أطراف المدن، تفتخر بأنها ما زالت تمتلك واحدة من تلك الخيام المعبقة بذكريات الماضي، وحكايات الجفاف والربيع والتنقل على ظهور الجمال والخيول والحمير، وراء الكلأ عبر الحدود والوديان.

ومنذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي، تغيرت الحياة بالنسبة إلى عدة ملايين من رعاة الأغنام والإبل والماعز، الذين سكنوا في نجوع متنقلة في المناطق الواقعة بين البحر المتوسط والواحات التي تبعد عنه بنحو ثلاثمائة كيلومتر داخل الصحراء الكبرى الممتدة بين مصر وحتى سلسة جبال المغرب العربي. وطوال العقود الخمسة الماضية كان عدد سكان الصحراء يتناقص، بسبب الهجرة والسكنى قرب المدن، لما بها من خدمات ومرافق ومراكز تعليمية وصحية. والأماكن الجديدة ليست آمنة بطبيعتها لكي يعيش فيها الإنسان داخل خيمة، حيث مساحة الأرض المحدودة، والبيوت المتلاصقة أو القريبة من بعضها، وحيث الجيران الأغراب.

وفي مواجهة الزمن وتغير الظروف، والانتقال من حياة الترحال إلى حياة الاستقرار، تمكن نوع من الخيام من البقاء، والعودة لأداء دور ثانوي يتعلق بالمناسبات. ففي الأعراس والعزاء وفي المواسم الانتخابية، يمكن أن ترى واحدة من تلك الخيام العتيقة التي تمكنت من الاحتفاظ بنفسها، وبمتعلقاتها. كما أن ذاكرة بعض العجائز ما زالت تحتفظ بطريقة تركيب الخيمة ونصبها بالطريقة الصحيحة.

وهذا النوع من الخيام أو بيوت الشعر، كانت نسوة النجع يغزلنه من صوف الأغنام وشعر الماعز، وهي خيمة تشبه خيمة القذافي التي يحب الإقامة فيها. وحلت محل خيام الشعر التقليدية «خيام تيك أواي». وأخذت الاسم الجديد بسبب سرعة صناعتها وسرعة طيها وتركيبها، ونقلها من مكان إلى آخر وهي مثل تلك التي يصنعها حسين في ورشته بمدينة مرسى مطروح (نحو 500 كلم شمال غربي القاهرة).. ويمكن لمن لا يملك ثمن شراء خيمة أن يستأجر واحدة لمدة يوم أو يومين، حسب حاجة العرس أو العزاء أو غيره من المناسبات.

«ليست فيها بركة...» تقول الحاجة زهيرة واصفة الخيمة الـ«تيك أواي». وأصبحت زهيرة التي تقدر عمرها بنحو 85 سنة، تسكن مع أبنائها في منزل مبني من الحجارة والإسمنت بمرسى مطروح. وتتذكر زهيرة الخيام التي اندثرت بفعل الزمن: «لم يتبق منها اليوم إلا خيمة واحدة، هي العزيزة على قلبي».

وتقوم زوجة ابن زهيرة، واسمها خديجة، البالغة من العمر نحو 57 عاما، بمهمة الحفاظ على آخر «بيت ربيع»، نسجته حماتها زهيرة في الزمن الغابر. وبيت الربيع هو الخيمة التي تشبه في الوقت الحالي خيمة القذافي الشهيرة، وهي مشغولة من الصوف وشعر الماعز. وقبل أن تشد بالحبال، ترفع خيمة الشعر على 16 عمودا من أحجام وأطوال مختلفة.. أهمهم عمودان يقفان في منتصف الخيمة. ويطلق على العمود الواحد منهما كلمة «جابر». وهي مصنوعة من خشب الأثل أو نحوه، ويتراوح طولها بين مترين ومترين ونصف المتر.

وتتنوع أحجام الخيمة التقليدية حسب ثراء الأسرة وفقرها. كما تتنوع على هذا الأساس خاماتها ومتعلقاتها الضرورية، من حيث نوع الصوف والشعر ومقدار القماش الذي يدخل في صناعتها، وكمية الزخارف والأشكال التي تتفنن النسوة في رسمها على أروقة الخيمة وعلى حمالاتها ونوع الأعمدة التي ترفعها من المنتصف والأجناب.

وعلى الرغم من أنها تعيش مع زوجها وحماتها في بيت من الإسمنت، فإن خديجة ما زالت تحفظ عن ظهر قلب كل تفاصيل خيمة الشعر (بيت الربيع). ويوجد بطول هذه الخيمة، من أسفل، حمالتان أساسيتان منسوجتان من الصوف والشعر، تصلان أول الخيمة بآخرها وتشدانها، وتوجد حمالتان أخريان موازيتان لهما، إضافة إلى حمالة ثالثة تمتد بعرض البيت، وتتقاطع مع الاثنتين الأساسيتين عند كربتي الجابرين. وتسمى كل حمالة منهم باسم «طريقة».

وفي جانبي الخيمة يوجد عمودان آخران أقصر وأصغر حجما، ويرفعان جانبي الخيمة، من دون كربة، ويسمى كل عمود من هذين العمودين باسم «الكم»، أي أن لكل خيمة كمين.. وتقف الزوايا الأربع للخيمة على أربعة أعمدة أخرى تعرف باسم «الخماسيات»، أو «الخماميس»، أو «الخماسية» للعمود الواحد. ويستند مدخل الخيمة وخلفيتها على عمودين لكل منهما، وتسمى أعمدة المقدمة «المقاديم»، والمؤخرة «مواخر (تنطق: امواخر)».

وتتكون الخيمة من 14 رمة، والرمة هي الحبل الممتد من الوتد إلى جانب الخيمة من أعلى، ويصل طول الرمة إلى ثلاثة أمتار. ويربط الحبل في الخيمة عن طريق جازل، وهو قطعة خشب مقوسة من شجر الزيتون. وكل خيمة بها 14 جازلا من جوانبها الأربعة.

وتلف أركان الخيمة الأربعة جدران من القماش يعرف كل منها باسم «رواق»، ويثبت كل رواق في أطراف الخيمة، المنصوبة على الأوتاد، بأسياخ معدنية أو خشبية يشبه حجمها وحدتها حجم المخيط وحدته، يطلق على كل منها اسم «الخلال»، وجمعها «الخلة».

وتغنى الكثير من شعراء العرب من سكان شمال أفريقيا بالخيمة.

ويقول حسين وهو يعكف على صناعة المزيد من الخيام، إنه يحاول أن يستوحي الشكل التقليدي للخيمة من حيث الزركشة الداخلية التي تميز أروقتها: «إن البعض بدأ يطلب تغيير شكل الخيمة لتناسب العصر، وتلبي احتياجات الناس في مناسباتهم، من دون التزام بالشكل التقليدي.. أو كما يسمونها خيمة (تيك أواي).. وبدلا من فرش هذه الخيمة بالأكلمة كما كان يحدث قديما، أصبح عدد من الزبائن يفضلون وضع الكراسي والمناضد داخلها وبالتالي يطلبون زيادة ارتفاعها عن الأرض أكثر من السابق».