سوق الخجا الدمشقية حافظت على تخصصها بين مكانين وبناءين وجيلين

طابقها العلوي لمصنعي الجلديات والأرضي لبيع منتجاتهم

صورتان لسوق الخجا الجديدة والقديمة.. صورة السوق القديمة التقطها الباحث الدمشقي الراحل الدكتور قتيبة الشهابي («الشرق الأوسط»)
TT

«أبو عدنان» الميداني (70 سنة)، الذي ورث محلا لبيع الجلديات اليدوية في سوق الخجا القديمة، قرب سوق الحميدية الشهيرة، والملاصق لقلعة دمشق، لم يظن أنه سيسعد كثيرا عندما انتقل من محل والده إلى محل آخر عصري ليس ببعيد عن محله الأصلي. ولكنه اليوم وبعد ربع قرن من نقلته النوعية مرتاح للغاية.

ويقول أبو عدنان: «المصلحة العامة أولا يا أخي. صحيح كانت الأجواء أكثر حميمية بين تجار سوق الخجا القديمة، وخاصة أن السوق ومحال الأسواق القديمة المسقوفة، توضع محلاتها تحت سقف واحد من التوتياء وتتجاور، بل تتلاصق، بحيث كنا نسمع أحيانا همسات جارنا في المحل الملاصق، كما كان يسمع أحاديثنا وضحكاتنا وحركة العصا المدببة عندما تضرب الجدار في محاولة لالتقاط محفظة أو شنطة مدرسية جلدية تكون معلقة في سقف الدكان، ولكن هنا في هذه السوق الجديدة حسنات كثيرة». ويضيف أبو عدنان قائلا: «لقد استطعت التأقلم معها بعد فترة وإن كانت طويلة نسبيا، لأنني من الذين يحنون دائما للقديم وذكرياته». ثم يبتسم ويتابع كلامه: «... شعرت هنا بسعادة كبيرة لأن السوق الجديدة بنيت على طراز تقليدي وإن كانت بطوابق متعددة.. والزوار هم أنفسهم.. والمتسوقون هم هم لم يتغيروا.. والازدحام لم ينخفض بل (تفضفضنا) قليلا في السوق الجديدة أمام محلاتنا، وصرنا نعرض بضاعتنا بشكل أرحب».

وإذا كان أبو عدنان ما زال يتذكر سوق الخجا القديمة، فإن سمير حايك (30 سنة) ومثله عشرات البائعين الشبان في السوق الجديدة لا يعنيه الأمر كثيرا. وهو يقول: «لقد ورثت هذا المحل عن والدي الذي توفي قبل عشر سنوات. ومنذ صغري كنت آتي معه إلى هنا، وكان يحدثني في بعض الأحيان عن السوق القديمة والازدحام الشديد فيها بسبب ضيق الممرات بين دكاكينها. ولكن تجارتنا هي هي لم تتغير، فنحن تخصصنا في بيع الحقائب النسائية بمختلف أشكالها، وبيعها لم يتأثر كما أعتقد، باستثناء أنه يكون هناك مثلا بعض الزوار الذين كانوا يزورون سوق الخجا القديمة في سياق تجوالهم وزيارتهم للأسواق القديمة، وخاصة السياح منهم، أما هنا في السوق الجديدة فمن يزورها يكون غالبا قصده الشراء منها، لأن فيها تتجمع كل محلات بيع الجلديات».

حكاية «سوق الخجا»، ما بين قديمها وجديدها، حكاية عمرها 25 سنة. فالسوق، كغيرها من الأسواق الدمشقية المتخصصة، تخصصت منذ تأسيسها في أواخر القرن التاسع عشر في بيع المنتجات الجلدية. ولكن للصدف والتقادير فإن السوق بنيت على طول الجدار الغربي لقلعة دمشق، الذي أنشأه شخص أعطاه اسمه ويدعى راغب بن رشيد الخوجه، الذي اشترى الأرض من العثمانيين وبناه بتشجيع من الوالي - آنذاك - حسين ناظم باشا. أما السبب فكان الرغبة في التخلص من تراكم الأوساخ والنفايات المنزلية التي كان الناس يلقون بها في خندق القلعة مما كان يؤدي إلى انتشار الروائح الكريهة والأمراض نتيجة لذلك. ولقد بنى الخوجه السوق على نمط سوق الحميدية بطابقين بحيث خصصت الطوابق العلوية لتكون ورشا حرفية يدوية لمصنعي الجلديات والطوابق الأرضية - أي المحلات - لبيع منتجاتهم المشغولة وعرضها. وجددت هذه السوق عام 1905، وغطيت بسقف من الحديد والتوتياء وقاية لها من الحريق، وتميزت بمداخلها الأربعة. وكان أحدها ينفتح على سوق الحميدية، والثاني على سوق النحاسين، والثالث أمام باب القلعة، والرابع أمام جامع «السنجقدار» الأثري. وكانت دكاكين السوق تبيع الحقائب والملابس العسكرية ولوازمها وأشغال الخرز التي كان سجناء القلعة يصنعونها، ومنها حقائب اليد النسائية والجزادين الصغيرة التي توضع في الجيب، وأنابيب (أو نرابيش) النارجيلة وغيرها.

ولكن كان لا بد من التضحية بهذه السوق القديمة لكشف جدار القلعة وخندقها الغربيين ضمن مشروع ترميم وإظهار قلعة دمشق الضخمة، وهي الوحيدة بين قلاع العالم التي بنيت على مستوى الأرض وليس على جبل أو تلة مرتفعة. وهذا ما حصل بالفعل قبل 25 سنة عندما هدمت السوق وانكشف جدار القلعة الغربي.

غير أن العمل انطلق لإنشاء سوق جديدة بديلة ومشابهة للقديمة وتحمل الاسم نفسه، وأقيمت بمكان لا يبعد كثيرا عن مكان السوق القديمة. فقد أنشئت على بعد 300 م من السوق القديمة في منطقة شارع الثورة، قرب حي ساروجة القديم، وحاول مشيدوها أن يعطوها سمة تراثية من خلال عمارتها ولو أنها جاءت إسمنتية، بينما بنيت السوق القديمة من الحجر التراثي المائل للون الأصفر.

والسوق الجديدة، التي انطلق العمل فيها لمدة عام، استفاد من محلاتها جميع أصحاب محلات السوق القديمة الذين اشترط عليهم ألا يغيروا تجارة أو مهنة الآباء والأجداد في السوق الجديدة. وفي هذه السوق شكلت جمعية تعاونية اشترت الأرض من محافظة دمشق وبنتها بمساحة 2000 متر مربع بقبوين تحت الأرض وثلاثة طوابق فوقها مع مراعاة العصرنة من خلال وجود المصاعد والسلالم الكهربائية. وخصص كل تجار السوق القديمة التي كان عدد محلاتها 220 دكانا بمحلات لهم في السوق الجديدة، بل وزاد عدد المحلات ليصل عددها إلى 237 محلا ظلت محافظة على التخصص الأصلي في بيع المنتجات الجلدية. كذلك روعي في بناء السوق انفتاحها على أربع جهات، حيث تطل الواجهة الرئيسية الشرقية على شارع الثورة، والواجهات الأخرى على مداخل منطقة ساروجة. ولقد خصصت معظم محلات واجهتها الخلفية الغربية بوجود ورش صغيرة لتصليح الحقائب وصيانتها.

ويقول عاصم حمود، وهو حرفي يعمل في السوق منذ 20 سنة: «وجدت أن العمل في تصليح الشنط أكثر ربحا من بيعها، خاصة أنني أستثمر محلا في الواجهة الخلفية لسوق الخجا الجديدة، وهنا عادة عدد الزوار أقل، ولذلك تخصص معظم زملائي في الصيانة، وهذه مهنة لا تحتاج إلا إلى القليل من الخبرة وطول البال ووجود ماكينة خياطة وبعض الأدوات البسيطة».

وحقا، فإن سوق الخجا، من منطلق تخصصها في الجلديات ولطغيان الجيل الجديد الشاب على محلاتها كبائعين، يحرص هؤلاء فيها على عرض وبيع كل ما يخطر على ذهن الزائر والسائح والزبون من مختلف أشكال وأنواع ومقاسات الحقائب الجلدية المصنعة محليا بشكل آلي أو المستوردة من الصين والدول الأخرى. وخلال حوار مع أحد الباعة الشباب، واسمه عبد مخللاتي (25 سنة) عن السبب في عدم وجود الجلديات المصنعة يدويا التي تتميز بلونها الخاص وهو العسلي أو البني الفاتح في السوق الجديدة، أجاب عبد: «هناك محلات وورش تخصصت في هذه الجلديات اليدوية موجودة في سوق المهن اليدوية (التكية السليمانية) وفي سوق السروجية القديمة، وكان أجدادنا في السوق القديمة يبيعونها، ولكننا كجيل جديد في السوق حريصون على مماشاة رغبات الجميع، ولذلك نبيع كل المنتجات الجلدية العصرية والموديلات الحديثة من الحقائب النسائية والسفرية وحقائب اليد الرجالية والجزادين والحقائب المدرسية التي ينشط بيعها كثيرا في موسم العودة للمدارس، وحاليا لأنها مطلوبة منا بكثرة، صار لدينا تشكيلة متنوعة لحقائب الكومبيوترات المحمولة (اللاب توب) ومحافظ الموبايلات الجلدية وغيرها.. فنحن نلحق بالموضة والعصر».