«حديقة الجزيرة».. نزهة الغلابة على كورنيش النيل

أصبحت ملتقى للفنانين وأهل الغرام

الخضرة والجمال والفن في حديقة الجزيرة بالقاهرة (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

«واحة نيلية» بامتياز، تمثلها حديقة الجزيرة القابعة في حضن النيل أسفل أحد أشهر كباري القاهرة، كوبري قصر النيل.. وكما يقول المصريون في أمثالهم الشعبية «من جاور السعيد يسعد»، اكتسبت الحديقة - بعمرها الذي لم يتجاوز ثماني سنوات - قدرا كبير من بهائها وهدوئها المشمس، من جارتها حديقة الأندلس، التي صدحت فيها فيروز بأغنيتها الشهيرة في سبعينيات القرن الماضي «مصر عادت شمسك الذهبُ»، وفي حفل لن ينمحي من ذاكرة المصريين.

قبل سنوات من بناء الحديقة، كان الكثير من العشاق الغلابة، يتمسحون بكورنيش حي الزمالك الراقي، يلتمسون تحت ظلال أشجاره ونظافة أرصفته نفحة من الجمال والهدوء. وعلى الرغم من أن جزيرة الزمالك تضم القسط الأكبر من المتاحف والمعارض الفنية، إضافة لدار الأوبرا المصرية، كما تضم أيضا عددا كبيرا من الحدائق العامة مقارنة بمساحتها الصغيرة. ومن دون سبب واضح، ظلت المتاحف والمعارض الفنية مقتصرة على النخبة المثقفة، فيما احتشدت الحدائق بمئات المصريين. ولم يهتم أحد من الجانبين باختراق فضاء الآخر، لكن «حديقة الجزيرة» بموقعها قبالة دار الأوبرا نجحت في أن تكون جسرا للوصل بينهما، وأن تكون ملتقى مفتوحا يجمع الفن بالجمهور. تمتد «حديقة الجزيرة» ما بين كوبري «قصر النيل» وكوبري «15 مايو» بوسط القاهرة، ولا تكتفي الحديقة بصداقة اللوحات أو الأعمال الفنية المعروضة بها، إنما تشارك في إنتاجها.. أوراق بيضاء وألوان وفضاء من الحرية والجمال على كورنيش النيل ومتخصصون يساعدونك على أن تُخرج ما بداخلك بضربات فرشاة.. هذا ما توفره لك الحديقة وهي واقع فاق أحلام الراحل الدكتور محمد عبد الهادي راضي، صاحب فكرة إنشاء الحديقة.

حين وصل الدكتور محمد عبد الهادي راضي لكرسي وزارة الموارد المائية والري كان يملك حلما بسيطا، لكنه كان يدرك أيضا مدى صعوبته.. «مكان للغلابة على كورنيش الزمالك».. ولتحقيق هذا الحلم كان عليه أولا أن يواجه التعديات على شاطئ النيل وجيش المستفيدين من ورائها.

السنوات التي قضاها راضي وزيرا لم تكن كافية لحسم المعركة، وبعد رحيله بأربع سنوات بدأ العمل بالفعل في هذا المشروع في المسافة بالجزيرة بعد ضم هذه المساحة لمحافظة القاهرة، ومع عام 2001 أصبح للغلابة مكان على الكورنيش يحمل اسم «حديقة الجزيرة».

ولأن المدن الكبرى تتنفس الزمن، إذ تبدو إذا ما نظرت إليها في لحظة الذروة كما لو كانت ساعة عملاقة تعمل وفق إيقاع سريع وصاخب لا يهدأ. لذلك، لا تعرف تلك المدن ومن بينها القاهرة أي فلسفة آمنة للطريق، فالمسافة من حي لآخر لا تعد مجرد عقبة، بحكم الصخب والزحام، وإنما هي معادلة خارج حسابات الزمن والوقت والتاريخ.

تعودت حدائق ومتنزهات القاهرة على هذا الإيقاع الرخو، لكن حديقة الجزيرة وجدت في أجوائه متسعا لفلسفة أخرى، حيث تختفي خلف سياج الخضرة وتنعزل عن الصخب في واحة هادئة. أما مساحة التماس ما بين الاثنين، الواحة والصخب، فيمثلها «كورنيش النيل» بامتياز.

هذه الروح النيلية التي تملكها حديقة الجزيرة كانت سببا رئيسيا في أن تصبح ملتقى للفن والجمهور. ففي فضائها المشمس الظليل تقام فعاليات فنية.. معارض حفلات غنائية أو أمسيات شعرية، تحت رعاية وزارة الثقافة.

ربما تفتقر «حديقة الجزيرة» إلى المساحات الخضراء لكن مدير الحديقة مؤنس محمد عثمان يؤكد أن حديقته تتميز عن غيرها من الحدائق العامة بتنسيق مميز لمساحة الخضرة بها، بالإضافة إلى ما تقدمه من نشاط ثقافي مميز.

ومن خلف مكتبه أسفل كوبري قصر النيل، يقول عثمان: «نحاول إعادة بناء صورة مختلفة عن الحديقة العامة، لكي تظل مكانا محترما ومفتوحا للجميع بمن فيهم المحبون والعشاق»، ويستدرك: «طبعا نرحب بالجميع.. لكن في إطار هذا الاحترام، للمكان وللزوار الموجودين به، ولو خرج أي زائر عن هذا الإطار نطلب منه مغادرة الحديقة فورا».

الصورة الجديدة التي يحاول القائمون على الحديقة تكريسها أن تصبح مكانا يثير دهشة الشباب والأطفال، وتشكل حافزا لطاقة الإبداع الكامنة بداخلهم.. بعيدا عن «حصص الرسم في المدارس بقوالبها الجامدة المحفوظة عن ظهر قلب والقادرة على وأد أي ظلال موهبة».

ويضيف عثمان أن نشاط الحديقة يرتبط بهذه الفكرة لذلك يتم تكثيف النشاط في الصيف بداية من شهر يونيو (حزيران)، حيث تفتح الحديقة أبوابها أمام الجمهور منذ التاسعة صباحا وحتى العاشرة مساء وتقام فعاليات ملتقى الفن والجمهور يوميا، بخلاف فصل الشتاء حيث تقام تلك الفعاليات مرة واحدة في الأسبوع، في العطلة الرسمية (الجمعة)، كما تتيح الحديقة لشباب الخريجين العمل بالمكان، باستئجار الكافيتريا، وهو استثمار جيد لشاب في بداية حياته ويرغب في إثبات ذاته وبناء مستقبله من دون أن ينتظر التعيين بالحكومة.

عادل السنوسي، وهو شاب في منتصف العشرينات، لم يلتفت إلى ما تقدمه الحديقة من فعاليات ثقافية، لكنه تعود أن يمر من وقت لآخر على الحديقة وحيدا.. قال: «المكان هنا جميل للغاية.. يمكنك الاستمتاع بالنيل من دون مضايقات فلا بائع متجول ولا مراكبي يحاصرك بإلحاحه». يعمل عادل كبائع بأحد محال وسط البلد، ووسط الضغوط التي تحاصره يجد بالحديقة متنفسا يعيد له توازنه، لكن سهام أحمد وهي موظفة حكومية اعتادت أن تصطحب حفيدها إلى الحديقة بعد يوم عمل.. تقول: «أحيانا تضطر ابنتي إلى ترك الولد معي.. فأصطحبه إلى مقر عملي ثم آتي بعد ذلك إلى هنا لكي يلعب قليلا.. وهو يحب المكان، وأصبح يطلب من والدته المجيء إليه».

واعتادت نها الصباح، طالبة بكلية الفنون الجميلة المجيء برفقة زميلاتها للحديقة.. تقول نها: «في كثير من الأوقات نذهب للمتاحف القريبة من الحديقة.. نذهب مثلا للمتحف المصري (بميدان التحرير.. وسط القاهرة).. نتجمع صباحا في الحديقة ثم نذهب سويا، وأحيانا نأتي هنا للرسم فالمكان جميل ومفتوح على النيل والخضرة ويحفز على الإبداع».. وتضيف إحدى زميلاتها: «هنا لا أحد يضايقنا، أو ينتابه فضول التلصص على ما نفعله، وهو ما يواجهنا مثلا حين نذهب للرسم في حديقة الحيوانات».

أما رجب عبد الله، موظف هيئة حكومية، فيتمنى أن يصبح كورنيش النيل على غرار هذه الحديقة ويقول: «لدينا نيل جميل، يمتد من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، لكن لا أحد يهتم به، ليصبح ممشى ومتنزها جميلا لعامة الناس».