معرض يعيد الدمشقيين إلى طقوس وحميمية حمام السوق

من خلال عرض مفردات الاستحمام التراثية من صابون الغار والقباقيب والمناشف

حمام دمشقي تقليدي («الشرق الأوسط»)
TT

احتضن مبنى التكية السليمانية التاريخي وسط العاصمة السورية، دمشق، معرضا تراثيا عن الحمامات العامة وتقاليدها التي تتجه إلى الاندثار والانقراض تحت عنوان «الحمام مكان مخفي ونعيم منسي المقام». صاحب الفكرة والمشرف عليه المهندس النمساوي كريستيان ستورينجر، الذي نظمه بالتعاون مع المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى ومقره الدائم دمشق، حيث ينفذ المعهد مشروعا توثيقيا لتحقيق التنمية المستدامة لعدد من حمامات منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط القديمة لتوظيفها تراثيا وثقافيا وبدعم من الاتحاد الأوروبي ضمن برنامج التراث الأورومتوسطي الرابع.

وحرص المنظم على تذكير الناس بحمامات السوق القديمة وما كانت تقدمه من خدمات لروادها، والتي قلت كثيرا مع اقتصار دور ما تبقى من حمامات تاريخية على تقديم خدماتها إلى بعض المجموعات السياحية وزوار دمشق وبعض الدمشقيين المتمسكين بمفردات الماضي والتراث والحنين إليه. ولذلك استوحى منظموه من المثل الشعبي الدمشقي الشهير «نعيم الدنيا الحمام» عنوانا لمعرضهم، مع التذكير بضرورة العودة لإحياء تقاليده.

ففي جانب من المعرض توقف رجل مسن سبعيني يتمعن في المعروضات وكأنه يتذكر كيف كان يمارس طقوس حمام السوق مع أسرته وبشكل أسبوعي، وليتوقف فيما بعد أمام مجسمات لعدد من حمامات دمشق القديمة التي اندثر بعضها أو تغيرت وظيفته.

ويتأوه يحيى المالح أبو معروف وهو يتابع باهتمام بالغ مقتنيات المعرض ويقرأ بعض العبارات الجميلة على لوحات تتصدر جدران المكان، بينما كان حفيده الصغير يضع سماعات على أذنيه مستمعا لشرح عن الحمامات القديمة ويقول أبو معروف: «لقد أعادني هذا المعرض إلى الماضي لأكثر من نصف قرن، عندما كنت أذهب ورفاقي الشباب لنستحم كل أسبوع في حمام حارتنا (حمام الجوزة) في منطقة ساروجة قرب حارة جوزة الحدباء، ولكن هذا الحمام بات مهجورا اليوم ومهملا، وكلما مررت بجانبه بين الفترة والأخرى، حيث أسكن حاليا في ضاحية دمر (دمشق الجديدة)، أتذكر يوم عرسي في ستينات القرن المنصرم عندما استحممت فيه مع أصدقائي المقربين الذين رافقوني بعراضة شامية تقليدية من منزلي وحتى الحمام ومن ثم من الحمام وحتى مكان حفل عرسي. إنها أيام لا تنسى»، يطلق أبو معروف آهة عريضة، ولم يعد لهذه التقاليد وجود حاليا مع انتشار حمامات المنازل الحديثة والفنادق الفخمة «ولكنه يبقى معرضا جميلا أعادني إلى أيام الشباب».

وفي المعرض نشاهد بالفعل مقتنيات ونماذج لكل ما هو كان موجودا في حمام السوق، فهناك مثلا صابون الغار والقباقيب الخشبية والمناشف والخزن الخشبية المزخرفة بالصدف، وهناك صور لأشخاص في الحمام مع عرض أفلام في أكثر من زاوية وبطرق مختلفة عن الحمامات التراثية، كما حرص منظموه على وضع سماعات في أحد جوانبه يمكن للزائر أن يسمع من خلالها أصوات أناس في الحمام وإلقاء للشعر وبعض الأغاني التراثية الخاصة بالحمام، وعرضت أيضا ثلاثة تصاميم لحمامات قديمة هي حمام القرماني وحمام أمونة وحمام الجوزة. كما وضعت لوحات تتضمن شرحا عن أجزاء الحمام وبعض العبارات الخاصة به مثل «الحمام نعيم الدنيا». كما تميز المعرض بوجود بعض الألعاب التي صممت خصيصا عن الحمام ووزعت كهدايا على الأطفال الزائرين للمعرض لتذكير هؤلاء الصغار بتلك الأماكن التي كان يرتادها أجدادهم بشكل كبير ويمارسون فيها عادات وطقوس جميلة ومنها زيارة الحمام الخاص بالنساء. وكان الناس يجلبون معهم أكلة المجدرة الشعبية الشهيرة ليتناولونها في الحمام. وهناك الآراكيل وكأس الشاي الساخن بعد الاستحمام، وقبله سيكون الحلاق جاهزا لمن يرغب في قص أو تشذيب شعره قبل الاستحمام، حيث كان كل صاحب حمام يحرص على أن يخصص جانبا من حمامه في المدخل أو في القسم الخارجي، وهو القسم الأول من الحمام كصالون حلاقة صغير.

الباحثة سراب الأتاسي، من المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، التي شاركت في مشروع توثيق بعض حمامات بلدان البحر الأبيض المتوسط من خلال دراستها حمام أمونة في حي العمارة الدمشقي القديم، قالت إن المعرض حاول خلق أجواء تراثية كتلك التي تميزت بها حمامات السوق الدمشقية القديمة. وقالت أتاسي إنه منذ عام ونصف العام تشجع الجانب الأوروبي لتقديم دعم مادي للعمل على التوعية تجاه تراث الحمامات في دمشق، مع التركيز على حمامين هما حمام الجوزة وحمام القرماني، «وحاليا نعمل على إعادة تأهيل هذين الحمامين بالتنسيق مع محافظة دمشق». ولدى المعهد الفرنسي وبدعم أوروبي وبتنسيق علمي وإداري من معهد فيينا لدراسة العمران المستدام مشروع «حمام: مجالات ومناهج بحثية متعددة الاختصاصات في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط»، «بدأنا به قبل خمس سنوات وقدمنا فيه سيناريوهات مناسبة لإعادة استخدام الحمام العام كمركز خدمة للمدن الإسلامية، وتم في المشروع دراسة وتوثيق حمام (الصفارين) في الحي التاريخي (القرويين) بمدينة فاس في المغرب، وهو يعود للقرن الرابع عشر والمسؤول عن الدراسة كمال رفتاني».

وهناك حمام سوق الغزل في حي سوق التجار في مدينة القسنطينة في الجزائر، ويعود إلى العهد العثماني، والمسؤول عن الدراسة محمد الصالح زوالة، وحمامي الطنبلة وباب البحر في منطقة باب الشعرية بمدينة القاهرة في مصر والمسؤول عن الدراسة دليلة الكرداني، وحمام السمرة في حي الزيتون في مدينة غزة بفلسطين، والمسؤول عن الدراسة باسم خليل الوزير، وحمام أمونة ويدعى حمام الشجاعي ويعود إلى العصر الأيوبي في حارة العقيبة في منطقة العمارة القديمة قرب باب الفراديس في دمشق، والمسؤول عن الدراسة سراب الأناسي.

وقد وقع الاختيار في هذا المشروع مبدئيا على حمامين، وهما حمام أمونة في دمشق، والصفارين في فاس بالمغرب، حيث سيتم تنفيذ العمل على ثلاث مستويات، وهي معالجة ترميم المباني ثم العمل على استمرارية الحمامات كمشروع تجاري قابل للبقاء وإعادة دورها كمكان للالتقاء في الحي وسيستمر المشروع مدة عامين منطلقا من دمشق ومنتهيا في العام القادم 2011 في فاس المغربية.