تقطير الزهر التقليدي.. اختصاص مدينة نابل التونسية

في مناسبة ربيعية لها أهميتها الاقتصادية الكبرى

مثل كل ربيع لا تنسى شجرات النارنج أن تزهر وتطلق أريجها في أرجاء المنطقة («الشرق الأوسط»)
TT

مثل كل ربيع لا تنسى شجرات النارنج، الواقعة في مواجهة الدار العربية للعائلة، أن تزهر وتطلق أريجها في أرجاء المنطقة كلها فتعلن رسميا أن فصل الربيع قد حل، وأن الشتاء ببرده قد ولى.

هكذا يقع الإعلان عن الحيوية والنشاط في مدينة نابل التونسية، المعروفة بأنها موطن الكثير من الأشجار العطرية، وأهمها على الإطلاق شجرة النارنج (من الليمونيات، وتسمى في تونس الأرنج)، مما يحول فصل الربيع داخل بيوت نابل إلى ما يشبه خلايا النحل العاملة. فترى بعض أفراد العائلة معلقين فوق أشجار النارنج العالية والكاملة النضارة بخضرتها طوال السنة، والبعض الآخر يتوجه بالسلال إلى المنازل وروائح تويجات الزهر تنتشر في كل الأرجاء، أما الأمهات والجدات فقد حولن بعض أركان المنزل إلى ما يشبه الوحدات الصناعية لتقطير الزهر. وهيهات أن تقارن بين الزهر الصناعي المنحدر من المعامل الصناعية والزهر الآتي من «قطار» تقليدي تحتفظ به بعض العائلات أبا عن جد منذ عشرات السنين، فهو لا يهترئ ولا يصدأ، ويعلن خروجه إلى الناس مطلع كل ربيع، ثم سرعان ما يعود منتصرا غانما إلى مكمنه، بينما يحفظ ماء الزهر في قوارير تسمى الواحدة منها «فاشكة».

جمعية صيانة مدينة نابل نظمت خلال الأيام الأخيرة الدورة الرابعة لتظاهرة تقطير الزهر التقليدي، وذلك أيام 9 و10 و11 أبريل (نيسان) الجاري بالمتنزه العائلي بسيدي سليمان عند مشارف المدينة. وتضمنت التظاهرة ورشة لتقطير زهر النارنج باستعمال القطار التقليدي، ومحاضرات حول مستخلصات هذه الزهرة واستعمالاتها ومنافعها، إضافة إلى فقرات تنشيطية منها عرض لمنتجات النارنج لكي يكتشف الحاضرون نكهته ومذاقه، ويعاينوا كيفية إعداد ما يسمونه «المجموعة» التي هي عبارة عن تقطير «كوكتيل» من العطور لاستخلاص عطر صاف يكاد يكون بيولوجيا خاليا من إضافات الكحول التي تعرفها معظم أنواع العطور.

حول هذه التظاهرة وحول أهمية تقطير زهر النارنج في نابل، قال الناصر عياد عضو «الجمعية» المشرفة على التظاهرة، إن «العائلات في نابل لا تنسى أن تحتفظ بمؤونتها من ماء الزهر كل سنة. فاستعمالاته تتعدى حدود العطور إلى إعطاء النكهة الضرورية لكل أنواع الأطعمة والمرطبات. كما أن الكثير من العائلات تلجأ إليه كملطف لحرارة الجسم، وهو ما يجعل كل عائلة في نابل، وكذلك في مناطق أخرى من تونس، تسعى إلى الحصول على القليل من ماء الزهر الطبيعي في مطلع كل ربيع. وإذا كانت عائلات تونسية أخرى تحتفظ بزيت الزيتون وبالسمن العربي والعسل البيولوجي، فإن العائلة في نابل تضع على رأس قائمة المواد المطلوبة ماء الزهر. ولعل هذه الممارسة على ارتباط ما بعبارة شعبية تونسية معروفة، إذ إن الزهر في اللهجة العامية التونسية يعني «الحظ». وربما كانت العائلات التي تقبل على عطور الزهر وتحتفظ بها طوال السنة، في الحقيقة تحتفظ بجالب للحظ داخل أركان بيوتها من دون أن تعلن ذلك جهارا.

والواقع أن لشجرة النارنج أو الأرنج في نابل مكانة مهمة، كذلك من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، فهي تتعدى كونها شجرة عادية من بين الأشجار تكاد تكون اختصاصا نسائيا بالأساس، لتصبح اليوم مورد رزق لأكثر من ثلاثة آلاف عائلة. وللعلم، فإن مدينة نابل تصبح خلال موسم جني الزهر قبلة أنظار كثير العائلات التونسية التي تدرك أن المدينة تحتفظ بأسرار تلك الصناعة ولا تضاهيها في ذلك أي من مناطق تونس. وهذا على الرغم من قصر مدة الموسم التي لا تزيد على 4 أسابيع في أقصى الحالات.

حاليا، لا تقل مساحات إنتاج الزهر في منطقة نابل عن 350 هكتارا، وهي تضم أكثر من 120 ألف شجرة نارنج تنتشر في المنطقة وتستطيع سنويا إنتاج ما بين 1000 و1200 طن من الزهر. وفي العادة، يجري تقطير 60 في المائة من الكميات المنتجة بالطريقة العصرية، بينما تحول البقية أي 40 في المائة بالقطار التقليدي، وهو مطلب الكثير من العائلات التونسية التي تبحث عن منتوج يقرب من الطبيعي ويبتعد أكثر ما يمكن عن الصناعي.

وتضم منطقة نابل، وتحديدا مدينة نابل وبلدة دار شعبان وبلدة بني خيار نحو 65 في المائة من مجموع غراسات النارنج، كما تستحوذ بمفردها على ست وحدات تحويلية مما يجعلها عاصمة ماء الزهر بلا منازع. وهذا التميز جعل المنطقة تبرز كقطب مهم جدا لإنتاج وتصدير زيت «النيرولي» الذي يستعمل في صناعة مواد التجميل والعطور، وهي تحتل مكانة بارزة عالميا في مجال تصدير هذه المادة الأساسية الموجهة، بالأساس، إلى مراكز صناعة العطور الرفيعة الراقية، ولا سيما في فرنسا، و«عاصمة العطور» فيها بلدة غراس التي تستورد ما بين 500 و700 كيلوغرام من «النيرولي» ذي الجودة العالية.

وفي هذا الصدد قالت شمسية ميلاد، من سكان مدينة نابل: «إن تقليد تقطير الزهر يعود إلى عشرات السنين، ولقد أصبح أشبه بالتقليد السنوي الذي لا يمكن التغافل عنه. ولا يكاد بيت عائلة من عائلات المدينة يخلو من القطار التقليدي، حتى إن بعض العائلات أصبحت توفره لبناتها ضمن جهاز العروسة، وهو مصنوع من الفضة أو النحاس، وكلما كان أقدم كانت بضاعته أفضل». أما عن الاستعمالات الكثيرة لماء الزهر، فتؤكد ميلاد أنه «يوظف في مجالات الصيدلة وفي تحضير كثير من الأكلات التقليدية والحلويات المعروفة في المدينة، بحيث يكفي أن تتذوق طعم تلك الحلويات لتتأكد أنها معدة في نابل من دون غيرها. ومن المنافع الصحية لماء الزهر أيضا استعماله كعلاج للبشرة، وهو كذلك يساعد على النوم الهادئ ويخفض حرارة الجسم ويساعد على التوقي من ضربة الشمس في صورة تخضيب فروة الرأس به». وتضيف شمسية ميلاد بفرح ظاهر: «نحن نفتخر بأن عطورنا قد غزت الأسواق العالمية».

أما على صعيد الأسعار، فعلى مستوى السوق الداخلية تخضع أسعار بيع الزهر لمنطق العرض والطلب ويدور السعر المتداول للوزنة في حدود العشرة دنانير تونسية وهو ما يقارب 7.6 دولار أميركي للوزنة الواحدة التي تساوي أربعة كيلوغرامات من زهور النارنج. وترتفع الأسعار قليلا في العاصمة التونسية تونس لتبلغ في سوقها المركزية حدود 12 دينارا تونسيا للوزنة الواحدة. أما بالنسبة إلى قوارير ماء الزهر التي يتداولها الباعة خلال هذه الفترة، فسعرها لا يقل عن سبعة دنانير تونسية (نحو 5 دولارات أميركية)، وهي محل إقبال التونسيين الذين يدركون منذ عقود أهمية وجود هذه المادة الطبيعية في بيوتهم.