آخر السرّاجين البوسنيين: الألمان سادة تجارة معدات العربات التي تجرها الخيول

صربي قاتل مع المسلمين في الحرب

مارينكو تشيغو آخر السراجين في البوسنة ينتظر التقاعد بعد 10 أشهر
TT

يجلس آخر السراجين في البوسنة والهرسك، مارينكو تشيغو، في غرفة ضيقة يعلو أرففها الغبار بين أدوات عمله، وعيناه محمرتان كمدا على زمن العز الذي مضى، وعلى صنعة مهددة تلفظ حاليا أنفاسها الأخيرة في منطقة غرب البلقان.

وعلى نافذة الورشة الصغيرة المفتوحة على الشارع الرئيسي قرب متحف ذو الفقار علي باشيتش، بين سراييفو العتيقة وسراييفو الجديدة، صفت بعض الوسادات التي تعلق في رقبة الحصان أو البغل لجر العربات. وفي ركن يكاد يكون مظلما وضعت بعض السروج في ما يشبه المغارة، وكأنها ترمز لأفول زمن السرج والسراجين والعربات التي تجرها الخيول، في وجه زحف التكنولوجيا الذي قوّض صنعة عريقة كان لها حرفيوها وأسواقها وزبائنها.

لم يكن مارينكو، في مزاج يسمح له بالحديث إلى «الشرق الأوسط» فاعتذر عن الإدلاء بأي تصريحات، قائلا إنه يرفض الحديث للصحافة «ولقد جاءني صحافيون من الولايات المتحدة الأميركية وكندا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها، كما جاءني صحافيون محليون.. لكنني اعتذرت لهم، وبالتالي فأنت لست الصحافي الوحيد الذي تحاشيت الحديث معه».

ولم أبد تبرما أو تذمرا، بل عبرت له عن تفهمي لوضعه، ثم انصرفت إلى تفحص الأدوات والمعدات التي يضيق بها المكان. لكنني بادرته بالكثير من التعاطف «كانت حرفتك صناعة مركزية، وكانت لها محلاتها الكبيرة التي تشبه ورش تصليح السيارات الكبرى في الوقت الحاضر..». عندها أخذ مارينكو نفسا عميقا، وغير رأيه، فتكلم بأسى قائلا «هذه الصنعة أصيبت بنكبة تاريخية. لقد كانت من أشهر الصناعات في المنطقة وكانت فيها أسواق بكاملها خاصة بالسراجين، وكانت محلات السراجين مكتظة بالخيول والزبائن، أما اليوم فكما ترى». سألته عما إذا كان السراج الوحيد الذي لا يزال يمارس مهنة صناعة السروج ومعدات الخيول والعربات، فأجاب «هذه الصنعة تموت ببطء. قبل بضع سنوات كنا 6 من الحرفيين لكنهم جميعا أغلقوا محلاتهم، ولم يبق في الميدان سوى أنا». وعن سير العمل في ظل الأوضاع المزرية التي تعيشها صنعته، شرح «أنا هنا أنتظر موعد التقاعد. فبعد 10 أشهر أبلغ الـ60 سنة وبعدها سأغلق المحل». وتابع «لا أعرف ماذا سيحل بالمحل بعد تقاعدي فأنا مستأجر للمكان، وخلال السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد الحرب، نادرا ما جاءني زبون لشراء أشياء أو معدات من الورشة، وأحيانا يمر شهر أو أكثر دون أن أبيع شيئا».

وعن فترة الحرب وكيف أمضاها، أشار مارينكو إلى أنه كان جنديا في الجيش البوسني، وتابع «لقد قاتلت في صفوف الجيش البوسني، فالبوسنة بلدي، وكنت قد اقترعت في الاستفتاء عام 1992 لصالح قيام دولة بوسنية وكان أكثر من 63 في المائة من الشعب البوسني على اختلاف طوائفهم قد صوتوا مثلي لصالح الاستقلال». وعن مصير صناعة السروج ومعدات العربات التي تجرها الخيول، أو المحاريث باستخدام الدواب، ولا سيما في المناطق التي يصعب فيها استخدام الآلة كالجرارات الزراعية وغيرها، قال إن «التكنولوجيا الحديثة جعلت الناس يستغنون عن الكثير من الأساليب القديمة، وهناك جرارات صغيرة يمكنها اليوم العمل في الكثير من الأماكن الصعبة، ما عدا أماكن لا تحتاج إلى صنعة قائمة بذاتها». وعما إذا كانت الصنعة ستموت بتقاعده بحكم أنه آخر الحرفيين الذين لا يزالون «يقاومون»، ذكر مارينكو أن جيلا من الشباب تدرب على يديه ولكن كل أفراد هذا الجيل يعمل اليوم في ألمانيا.

ولاحظ الرجل الذي يغادر الكهولة باتجاه الشيخوخة، الأسئلة الصامتة المرتسمة على وجهي قبل أن تتحول إلى تعبير باللسان فبادر بالقول «.. نعم.. نعم يعملون في ألمانيا. فألمانيا تصدّر هذه المعدات إلى الكثير من دول العالم بما في ذلك منطقة البلقان». وأردف «هذه الصنعة لم تمت تماما، غير أنها فقدت الكثير من أسواقها وانحسر نطاقها كثيرا بعدما حلت الشاحنات محل العربات في نقل الخشب من الغابات إلى الطرق الممهدة قبل أن تصبح معبدة.. وكان عملنا يعتمد على الخيول العاملة في الغابات بالدرجة الأولى، ثم على العربات الفلاحية التي تجرها الخيول، وفي المرتبة الثالثة معدات خيول السباق. ولكن لم يبق من مجالات الصنعة سوى معدات خيول السباق، فسباقات الخيول ستستمر طويلا ولن تنقرض معداتها أبدا».

وكشف الرجل الخبير في صنعته عن أسباب أخرى لانحسار نطاق صناعة معدات النقل والحرث وغيرهما باستخدام العربات التي تجرها الخيول، وهي المنافسة التي تمثلها أميركا اللاتينية، إذ قال «البوسنيون الذين يعملون في هذا المجال بألمانيا، يقومون في الغالب بصيانة المعدات، وتغيير نضوات قوائم الخيول، أما المعدات فهي تستورد من أميركا اللاتينية ومعظمها من الأرجنتين ويبيعها الألمان لدول العالم بما في ذلك دول أوروبا الغربية على أنها صناعة ألمانية.، فالألمان عندما تعجبهم دقة صنعة من الصناعات (أو الصنائع) ينسبونها إلى أنفسهم بعد أن يضاعفوا سعرها. ولكن ذلك يبقى أقل من السعر الرائج في بلدان التسويق في كثير من الأحيان، وهم يكادون يحتكرون هذه الصنعة التي تنحسر في معظم دول العالم بدرجات مختلفة..». ولم يجب مارينكو على سؤال حول ما إذا كان راتب التقاعد سيكفيه وزوجته، لكنه قال «زوجتي تعمل، ولدي بنتان إحداهما تعمل في السلك الدبلوماسي، وأخرى تعمل في التجارة وستتزوج قريبا. لكنني لا أطلب منهن مالا، ولم تقم أي منهما بتقديم أي مبلغ مالي لي من راتبيهما، فنحن نعتبر ما نقوم به حيال أولادنا واجبا، أما هم فبالكاد يسألون عن أحوالنا ولو من باب رفع العتب».

في تلك الأثناء دخل أحد جيران مارينكو المسلمين ليقدم له قطعا من الكعك الساخن، فرح بها كثيرا وارتسمت ابتسامة عريضة على محياه، فكانت فرصة لالتقاط صورة مغايرة عن الوجوم الذي يكتسيه ويرتسم بوضوح على وجهه.