سورية: «المتة» متعة مذاقية وإعدادها حرفة فنية

المشروب الثالث من حيث الشعبية في البلاد.. والأول في بعض المناطق

دكان يبيع مستلزمات «المتة» بأشكالها المتنوعة والمزخرفة في سوق البزورية الدمشقي («الشرق الاوسط»)
TT

مع أن الدراسات والإحصائيات تشير إلى أن شرب الشاي يحتل المرتبة الأولى في سورية، تليه القهوة، فإن «المتة» - أو بالأصح الـ«يربا» - تحتل المرتبة الثالثة. غير أن «المتة» أو الـ«يربا» التي تنتج وتستورد من أميركا الجنوبية تتمتع بالمكانة الأولى في عدد من المناطق الريفية السورية، لا سيما في مناطق الساحل السوري وجبالها، ومنطقة جبل القلمون شمال شرقي دمشق المتاخمة للبنان، والمناطق الجنوبية وبعض المناطق الوسطى من البلاد.

ومما يذكر أن بداية علاقة السوريين مع شرب «المتة» تعود إلى أكثر من نصف قرن، عندما جلبها معهم المغتربون في بلدان أميركا الجنوبية، خاصة الأرجنتين. وبعكس الشاي والقهوة، حيث لا حاجة إلى ما هو أكثر من فنجان أو كأس زجاجية صغيرة، فإنه لا بد من توافر مستلزمات معينة لشرب «المتة» الشبيهة بالشاي الأخضر، وفي مقدمها «مصاصة» معدنية عادة ما تصنع من الفضة وتسمى بالإسبانية «بومبيغا» أو «بومبييا»، وكأس تصنع لأميركا الجنوبية من ثمرة القرع المفرغة والمجففة والمشوية أو من البورسلان، ووعاءان أحدهما يخصص لـ«المتة» التي تضاف باستمرار للكأس حتى «لا تقطع» - أي كي لا يتحول منقوع «المتة» إلى عبارة عن ماء أصفر اللون بسبب انتهاء مفعول نبات المتة المجفف - والوعاء الثاني يضم السكر الذي يضاف إلى كأس - أو قرعة أو «جوزة» - «المتة»، حيث يستمر شاربوها، الذين غالبا ما يكونون عدة أشخاص، في إضافة السكر إلى كل كأس يشربونها إلى أن ينتهي أحيانا الماء الساخن الموجود في الإبريق المخصص لـ«المتة».

غير أن المستلزمات البسيطة لشرب المتة تطورت، مع انتشار منتجات استهلاكية متعددة الأشكال والمصادر في السوق السورية خلال السنوات العشر الأخيرة، وصار من الضروري أن تجاري تحديات العصر والموضة والسوق. وبالفعل، لتلبية أذواق السوريين في ارتشاف «المتة» طور الحرفيون السوريون أدوات متنوعة مزينة ومزخرفة بشكل جميل لتكون في خدمة شاربيها. ومن ثم انتشرت صناعة وتجارة جديدة أطلقها الحرفيون الشباب من ورش صغيرة ومعامل بسيطة، وتخصص في بيعها أصحاب محلات بيع الزجاجيات والنحاسيات والشرقيات التراثية، بل، حتى أصحاب محلات بيع المنتجات الغذائية في أسواق البزورية ومدحت باشا والعمارة في دمشق القديمة، وكذلك في الأسواق الشعبية في عدد من المدن السورية، لا سيما في المناطق التي يشتهر سكانها بشرب المتة.

الحرفي الشاب عبده سلوم (33 سنة) قال لـ«الشرق الأوسط» شارحا «لقد فتحت ورشة صغيرة في إحدى ضواحي دمشق لتصنيع بعض مستلزمات مشروب «المتة»، وبفضل قرض حصلت عليه قبل خمس سنوات من أحد البنوك السورية استطعت تحقيق ربح معقول من عملي هذا، وهو يعتمد بشكل أساسي على تصنيع كؤوس (المتة) الفخارية والمصنعة من البورسلان المسماة شعبيا (الجوزة)، وهي تأخذ شكلا خاصا يختلف عن شكل الكأس العادية، فهي واسعة من الوسط وضيقة قليلا من الأسفل وأضيق من الأعلى أي من فمها. وتلقى هذه الجوزات شعبية لدى ذواقة (المتة)، الذين يضعون فيها نبات (المتة) و(المصاصة) ويشربون بعد إضافة الماء. وهناك بعض الذواقة يرغبون في إضافة الحليب بدلا من الماء».

وتابع عبده «في السنوات الثلاث الأخيرة بناء على رغبات الزبائن طلب مني بعض البائعين الذين أسوّق لهم هذه الجوزات أن أصنع جوزات مزخرفة وملونة بشكل جميل، فاستعنت بصديق فنان رسم لي بعض النماذج التي صرت أضعها على جوزة (المتة). وفعلا لاقت هذه النماذج استحسان الزبائن وإعجابهم، وهي زخارف لونية على شكل نباتات وأزهار وطيور وحيوانات وغيرها.. وكلها بألوان غنية مختلفة حسب رغبة الزبائن».

غير أن عبده لم يكتف بتصنيع «الجوزة» بل أصبح يصنع العلب (السكريات) التي توضع فيها المتة بعد تفريغها من الكيس الخاص بها، وكذلك علبة السكر، وهنا قال معلقا «في هذه الأدوات أترك الخيال يحلق في مدى رحب.. فثمة عشرات النماذج من العلب، منها النحاسي، ومنها البلوري الشفاف والمحجر، ومنها الخزفي السيراميك، ومنها الخشبي.. وحتى البلاستيكي الرخيص الثمن. ومن أشكالها الدائري الذي يكون على شكل كرة أرضية بقسمين سفلي توضع فيه (المتة) أو السكر، وعلوي لتغطية القسم السفلي، وتكون لها أرجل صغيرة مع مسكة تزيينية في الأعلى. ونحن نتفنن بالزخرفة كما نريد وحسب المادة المصنعة منها السكريات.. فنرسم عليها خطوطا هندسية أو أوراقا نباتية أو طيورا وغير ذلك.. وهذه الأنواع تحظى بأعلى إقبال من زبائن (المتة). وفي المقابل، هناك نوع آخر منها غالبا ما يطلبه ذواقة (المتة) الذين يرغبون بالنزهات.. وشربها أثناء السفر. وهنا تكون السكرية مصنعة من قطعة واحدة وبأشكال جمالية مختلفة، بحيث يوضع على طرفيها (المتة) والسكر وتغطى بشكل محكم، بينما يكون هناك في الوسط وبين علبتي (المتة) والسكر مكان واسع لوضع جوزة (المتة)، وعلى الجانبين قسم مستطيل يسحب بالجر لوضع (المصاصة) فيه».

حرفيون آخرون اشتهروا بالعمل اليدوي لحقوا أيضا بموضة زخرفة أدوات ومستلزمات المتة، منهم الحرفي الشاب يوسف دعدوش، الذي يعمل في مجال النحاسيات اليدوية، ومما قاله يوسف «لاحظت في السنوات الأخيرة إقبال كثرة من الزبائن على شراء أباريق وصوان نحاسية مزخرفة، وكانوا يقولون لي إنها لزوم شرب المتة».

أما «أبو رشيد»، وهو بائع مواد غذائية وأدوات زينة في سوق البزورية الدمشقية، فقال «قبل سنوات قليلة لم أكن أعرض مستلزمات شرب (المتة)، غير أنني بالنظر إلى انتشارها صرت أطلبها من تجار الجملة وأعرضها في واجهة دكاني. وهي اليوم تلاقي رواجا من المتسوقين. لكن المشكلة هنا أن في السوق منتجات صينية الصنع ورخيصة الثمن قياسا بتلك المصنعة محليا، ولذلك صار التجار يستوردونها من الصين، وتراها اليوم تنافس بقوة المنتجات المحلية رغم جماليات المحلية ووجود جهد يدوي فيها».

وفي سوق مخيم اليرموك الشعبي، في جنوب دمشق، في دكان تخصص صاحبه في بيع الهدايا والتحف المقلدة، وقفت امرأة ستينية تفاوض صاحبه على مجموعة المتة الزجاجية التي يعرضها في الواجهة بشكل أنيق. السيدة التي عرفتنا على نفسها بـ«أم حيان»، والتي ذكرت أنها تسكن في المنطقة منذ عشرين سنة، قالت إنها تريد إهداء شقيقها المقيم في منطقة النبك إلى الشمال من دمشق بمنطقة القلمون، مجموعة «متة» بمناسبة إحالته إلى التقاعد.

وهي كما تقول «هدية ثمينة وقيمة تضم الصينية والسكريات والجوزة والمصاصة المعدنية المذهبة التي يمكن لأخيها أن يتباهى بها، وهو يشرب المتة مع أصدقائه الكثر، فـ(المتة) هي المشروب المفضل لدى النبكاويين (أهل النبك)».