تونسيات يعاندن «الحجر» في صناعة الفسيفساء

250 امرأة و300 عائلة يمارسون المهنة

TT

لوحات فسيفسائية تصنعها الأنامل النسائية بكل دقة، ينهمر العرق حبة وراء حبة، تماما مثلما تبدع تلك الأنامل اللوحات البديعة حبة وراء حبة لتكون في نهاية المطاف مشهدا تاريخيا أو طبيعيا يغري العين ويجعلها تأمر الجيب بالدفع دون حساب. صناعة الفسيفساء في مدينة الجم التونسية المعروفة تاريخيا باسم تيسدروس أصبحت من أهم مميزات المنطقة التي حازت صيتا تجاوز تونس ليصل إيطاليا وفرنسا وبلجيكا وأخيرا الولايات المتحدة الأميركية. ففي فترة وجيزة اكتسب الفسيفساء بالجم الواقعة على بعد 250 كلم عن العاصمة التونسية أهمية اقتصادية واجتماعية في المنطقة باعتباره يشغل قرابة 600 حرفي وتتوزع على مدينة الجم أكثر من ثلاثين مؤسسة حرفية، منها أربع مؤسسات مصدرة كليا، توفر صادرات سنوية تفوق قيمتها مليونين و800 ألف دينار تونسي (نحو مليوني دولار أميركي).

ولم تكتف هذه الصناعة بما توارثه بعض الحرفيين عن بعضهم البعض من لوحات وتصاميم، بل إن عدد الحرفيين الشبان سعوا لاستنباط مشاهد جديدة جعلت القطاع يسجل نقلة نوعية خلال السنوات الأخيرة وأصبحت صناعة الفسيفساء هناك تتميز بمنتوجاتها المبتكرة والمجددة إذ تجمع بين مكونات مختلفة كالحديد المطروق والفسيفساء والخشب إلى جانب الحجارة المادة الأساسية المستعملة في هذه الصناعة. ويجلب الحرفيون الحجارة الملونة من مناطق مختلفة؛ فاللون الأحمر يأتيهم من مدينة قفصة (600 كلم جنوب العاصمة)، والحجارة ذات اللون الأخضر تصلهم من مدينة جندوبة (200 كلم إلى الشمال الغربي للعاصمة)، أما اللون الأبيض فيحصل الحرفيون عليه من مدينة القيروان (نحو 160 كلم عن العاصمة).

عن صناعة الفسيفساء بمدينة الجم، تقول لطيفة لطيف المندوبة الجهوية للصناعات التقليدية بولاية (محافظة) المهدية إنها انطلقت بصفة فعلية ومركزة منذ بداية عقد التسعينات عندما سعى الديوان التونسي للصناعات التقليدية إلى تأهيل هذه الحرفة وتكوين وتأطير المنتسبين لها. وقد مكنت تلك البرامج من اندماج أكثر من 600 عائلة تونسية بمدينة الجم في صناعة الفسيفساء. وسعى الحرفيون إلى تجاوز اللوحات التقليدية المعتمدة في السابق بشكل يكاد يكون كليا على صور الآلهة الإغريقية القديمة، وتم التركيز على المميزات التونسية في هذا الباب على غرار المشهد الطبيعي الجذاب بسيدي بوسعيد بالضواحي الشمالية للعاصمة وكذلك مشاهد النخيل والبحر وغيرها من المشاهد الطبيعية غير المألوفة سواء لدى الحرفيين أو المشترين. وتضيف لطيف إن المفاجأة الكبرى في هذه الصناعة الصعبة أن كثيرات من التونسيات يؤدينها ببراعة حيث إن عدد النساء اللاتي يمارسن هذه المهنة مقدر بما بين 250 و300 عائلة معظمها عائلات ريفية تربطها علاقات مع أصحاب الورش حيث يقدم التصميم على الورق إلى النساء وهن من ينفذن ذلك ببراعة. وحول أجور النساء العاملات في هذا الميدان الصعب المكون بالأساس من الحجارة، قالت لطيف إن الحساب يتم بالقطعة وهو متراوح في معظم الحالات بين 200 و250 دينارا تونسيا (قرابة 150 إلى 180 دولارا أميركيا). ويتحصل الحرفيون على المواد الأولية الضرورية لصناعة الفسيفساء من المناطق المجاورة لمدينة الجم وخاصة مقاطع الحجارة بـ«تالة» من ولاية (محافظة) القصرين وولاية غوان ومدينة شمتو. أما بالنسبة لعمليات التسويق فهي تتم بشكل جيد باعتبار أن تنفيذ الفسيفساء يتم حسب الطلب أي أن المستهلك يتوجه إلى الحرفي ويطلب منه تنفيذ تصور بعينه في مجال الفسيفساء يختلف في معظم الحالات عن بقية التصاميم. وتباع اللوحة الواحدة المزخرفة بالفسيفساء من قياس مترين مربعين بما بين 600 و800 دينار تونسي (ما بين 400 و550 دولارا أميركيا). وأصبحت هذه الصناعة تستقطب اهتماما كبيرا من قبل الأسواق العالمية الخارجية وذلك بالنظر لجودة صناعتها من ناحية وكذلك لأسعارها المغرية وللسبق الحاصل في الخبرة لدى الحرفيين التونسيين بالمقارنة مع غيرهم سواء من إيطاليا أو بعض بلدان الحوض الغربي للمتوسط كما أكدت ذلك المندوبة الجهوية للصناعات التقليدية بالمهدية...

من ناحيتها ذكرت سعاد الدقداقي (40 سنة) صاحبة إحدى ورش صناعة الفسيفساء بمدينة الجم، أنها تعلمت هذه الحرفة من خلال الممارسة وقد قضت في ممارستها الآن قرابة العشر سنوات وقد جاءتها من صناعة الزربية وهو ما جعل السؤال منطقيا حول العلاقة المفترضة بين صناعة الفسيفساء وصناعة الزربية وهو ما فسرته الدقداقي بأن الرابط الأساسي بينهما هو الدقة والصبر، وهما ميزتان تعرفان بهما المرأة المقبلة على الصناعات التقليدية. لكن الدقداقي تؤكد أن مجال صناعة الفسيفساء أصعب بكثير من مجال الزربية، فالمرأة هنا «تعاند الحجر» على حد تعبيرها، وتتطلب الصناعة كثيرا من الجهد في التعامل مع مختلف أنواع الحجارة من قص وتحميل وقياس وغيرها من العمليات المضنية. وتؤكد الدقداقي أن من لا يحب هذه الحرفة ويسعى إلى معاندة الحجارة وتطويعها لا يمكن أن يستمر فيها ولو للحظة، فمنذ الوقت الذي تتطاير فيه بعض الأتربة على وجهه ستجده في مجال حرفي آخر أو على أبواب بعض المصانع الأخرى. سعاد الدقداقي قالت إن كل حرفييها من تونس وقد أدخلت كثيرا من التصاميم الجديدة في المجال وهي التي كانت تستعمل الكثير منها في مجال صناعة الزربية على غرار الجمل والنخلة والخمسة اليدوية والحوت وهو ما جلب لها كثيرا من المشترين. وتلاحظ من ناحية أخرى أن كل الألوان متوفرة ولوحة الفسيفساء هي عبارة عن لوحة تشكيلية لا يتقنها إلا القليل من الناس «ولا يدور في خلدي الآن أن أرجع إلى صناعة الزربية بعد أن أصبح لي كثير من الحرفيين أسعى لإرضائهم»، على حد تعبيرها. مدينة الجم التونسية احتضنت الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للفسيفساء من 14 إلى 16 مايو (أيار) الحالي، كما نظمت ندوة دولية بنفس المناسبة حول «الفسيفساء.. خصوصية محلية بمدينة الجم» شارك فيها عدد من المتخصصين في المجال نادوا بضرورة تدعيم القطاع وجعله رافدا مهما من روافد تنمية المدينة.