تونس: موسم الجزّ.. مهاجاة للرجال ومداعبة شعرية للشياه

صمود عنيد على الرغم من تراجع الطلب أمام غزو المنسوجات الصناعية

يعتبر موسم الجز مناسبة للوليمة واللمة للعائلة («الشرق الأوسط»)
TT

على مدى أكثر من شهر، وخلال هذه الأيام بالذات، تحتفل ولاية (محافظة) تطاوين التونسية، الواقعة على بعد قرابة 6500 كلم جنوب تونس، بموسم الجزّ الذي يشمل رؤوس الماشية من الأغنام والماعز والإبل. فالصوف الذي يوجه بالخصوص إلى نسج الأغطية والأفرشة والزرابي (السجاد) يتأتى من الأغنام، أما الوبر المستعمل بالذات في صناعة البرانس، فمصدره قطعان الإبل، في حين أن شعر الماعز يعتبر الأصلح لإنشاء بيوت الشعر وسط الصحراء التونسية الشاسعة.

ولاية تطاوين التي تحتكم على قرابة 560 ألف رأس بين أغنام وماعز وإبل تقيم احتفالات يومية في موسم جز القطيع خلال هذه الأيام، ويعتبر الأهالي هذا الموسم مناسبة للوليمة وللمة العائلية بمشاركة مختلف أفراد العائلة الذين يرجع البعض منهم من بعيد لحضور هذه المناسبة الموسمية المهمة. ويتعاون الفلاحون في ما بينهم كثيرا خلال هذه الفترة، إلى حد علق معه محمد هدية - وهو من أهالي تطاوين - قائلا: «إنك لا تكاد تفرق بين صاحب القطيع وضيفه... فالكل منهمك في الجز بنشاط وهمة وتعاون، وكلها خصال عرف بها أهالي الجنوب التونسي في مثل هذه المناسبات».

تنتظر العائلات هذه المناسبة، التي غالبا ما تنطلق مع نهاية شهر أبريل (نيسان) من كل عام، وبداية شهر مايو (أيار)، وقد يقع بعض التأخير في العملية إذا كان الطقس لا يزال باردا. ويرمي الفلاحون من وراء ذلك، خصوصا، إلى التخفيف أكثر ما يمكن على الشياه خلال موسم الحرارة، ولكي تستعيد الشاة حيويتها، ويخف حملها، وتنطلق في موسم جديد، بعد فترات الرضاعة والفطام والمداواة ضد الأمراض الصيفية، وضد الطفيليات المختلفة.

ولموسم الجز في تونس عادات وتقاليد كثيرة، ويخص الفلاحون الكبش، أو فحل القطيع، بنواميس خاصة و«حلاقة» تختلف عما يحصل عليه باقي أفراد القطيع، باعتباره الضامن لتجدد النسل. ولذا، يحرص الجزازون على أن تكون عملية جز صوفه مختلفة عن بقية ما يتعرض له باقي القطيع، بحيث لا يفقد كل صوفه، بل يبقي له الجز على جانب علوي، غالبا ما يكون على مستوى الإلية، ويكون بمثابة التاج.

وتقيم بعض العائلات طقوسا خاصة لعملية جز الكبش كإحضار «البسيسة»، كما أن غناء خاصا وزغردة خاصة يرافقان عملية الجزّ. ويستغل الرجال هذه المناسبة للغناء في ما بينهم بشيء يشبه «المواويل» التي تسمى في هذه الجهة من الجنوب التونسي باسم «المهاجاة». فالرجل الذي يجزّ الشاة يمتدحها، ويبرز خصالها، ويداعبها بصوته البدوي، باعتبارها تمثل بالنسبة إليه رأس مال حيويا لا يجوز التفريط فيه. وغالبا ما يكون الغناء متماشيا مع إيقاع حركات الجزّ ومتناغما معه، كما أن الأصوات الحديدية لـ«الجلم» (آلة الجزّ) تجعل الشاة قليلة الممانعة أو المقاومة أثناء جزّ صوفها، قبل أن تسترخي تماما للآلة.. وكأنها تدرك أن عملية الجزّ ستمنحها بعض الانتعاش، والخفة والرشاقة أيضا. ويتبادل الرعاة والبدو مجموعة كبيرة من الأشعار و«المهاجاة» إبان الجزّ، مما يضفي ظرفا ومتعة على المناسبة، ويحولها حقا إلى مناسبة سنوية مفرحة للالتقاء والترفيه عن النفس.

من ناحية أخرى، تنشط نساء الصحراء خلال هذه الفترة بشكل لافت للانتباه، وإن كان دورهن يقتصر خلال هذا الموسم على إعداد الطعام على اختلاف أنواعه، وجلب الماء الضروري للعاملين في حرارة عالية، عادة ما تكون قياسية. أما الأطفال الصغار فيتكفلون بجمع الصوف والوبر والشعر، وإبعاده عن مكان الجزّ، في انتظار الرجوع بكمياته إلى الخيمة، والتصرف فيها، سواء بالبيع أو ادخارها للاستعمال العائلي.

وفي الأعم الأغلب لا تنتظر العائلات الصحراوية فترة الخريف لاستعادة النشاط، بل تعمل مباشرة بعد موسم الجز على إعداد الصوف، وغيره من المنتوجات للاستعمال العائلي. وتمر العملية بمراحل عدة، من بينها غسل الصوف ونفشه وحياكته وغزله؛ ليصبح في نهاية المطاف مادة صالحة للاستعمال وصنع مختلف أنواع الأغطية والأفرشة البدوية.

ولكن على الرغم من أهمية كميات الصوف والشعر والوبر التي توفرها منطقة تطاوين، فإن عزوفا كبيرا أصبح يتبع عمليات الجز، ذلك لأن الإقبال على شراء المنتجات الصحراوية المنسوجة أصبح قليلا. وحسب الاختصاصيين في المنطقة، فإن قرابة 300 طن من الصوف، دون اعتبار وبر الإبل وقيمته العالية، وكذلك شعر الماعز، أصبحت تذهب سدى في غياب وحدات تحويل هذه المواد الطبيعية. أما السبب فهو تراجع الطلب على هذا الإنتاج الحيواني الطبيعي أمام غزو المنسوجات الصناعية التي غدت مفضلة لاستعمالات مختلف العائلات التونسية، بل قد وصلت العدوى إلى سكان الصحراء نفسها، بعدما ظلوا لفترة طويلة في مأمن من سطوة هذه الصناعات الغازية.

وتزن الجزّة الواحدة قرابة 4 كيلوغرامات، وغالبا ما لا يتجاوز سعرها في الوقت الحالي 300 مليم تونسي (أقل من ربع دولار أميركي)، في حين أن بعض الاختصاصيين في الجزّ يتقاضون نحو دينار تونسي واحد (أقل من دولار أميركي) عن جز الشاة الواحدة.

وسط كل هذه الصعوبات، وفي تحدٍّ عنيد لها، فإن الكثير من النساء المتمسكات بالتقاليد البدوية ما زلن يمضين فترات طويلة من وقتهن في نسج أبدع المنسوجات البدوية على غرار المرقوم (نوع من البسط) والبرنس والوزرة والبطانية والحمل والغرارة والوسادة.. وهي منسوجات بدوية ما زالت تؤثث الخيمة البدوية وما جاورها.