الراديو.. يستعيد بريقه في زمن الفضائيات

أنيس أوقات الزحام على الطرق وساحة إعلانية مشوقة

استطاعت الإذاعات الجديدة الخاصة أن تعيد إلى الراديو بهاءه وأهميته للمستمعين («الشرق الأوسط»)
TT

في حين كان الطريق المؤدي إلى «محور 26 يوليو» - أحد أهم المحاور المرورية في القاهرة الكبرى - متوقفا كعادته في معظم أوقات الذروة سواء في الصباح أو المساء، كان صوت إذاعة «نجوم إف إم» يصدع من العربات المترقبة لحظة انفراج الطريق، وكأن سائقيها اتفقوا ضمنيا وبشكل مباغت على تشغيلها في وقت واحد، كسرا للملل، وتسلية لساعات الزحام وهم في طريقهم إلى بيوتهم بعد عناء يوم طويل بدأ بمعركة مرورية في الصباح وانتهى بمعركة أشرس في المساء، الواحدة منهما كفيلة بإنهاك المواطن المصري لتصبح فترة العمل بمثابة الاستعداد للمعركة الأخرى.

كان الجميع يراهن على خفوت الراديو كوسيلة إعلامية في ظل عصر الصورة وزمن الفضائيات، وبرامج الـ«توك شو» وقنوات الأغاني ذات العرض المستمر، لكن زحام القاهرة المتواصل، ربما وقف إلى جانب الراديو ليعزز موقعه كوسيلة إعلامية مهمة، تجذب مزيدا من الإعلانات يوما بعد يوم، وأعطت تجربة «نجوم إف إم» وشقيقتها «نايل إف إم» دفعة كبيرة، حتى للإذاعات الحكومية، التي كانت تبدو كمحطات إذاعية سرية لا يسمعها أحد بسبب إيقاع مذيعيها البطيء، وأفكارها التي لم تتغير عن جمهور الراديو، متوقفة عند مرحلة الستينات، عندما كان الراديو الوسيلة الوحيدة للمعرفة. لكن هذه الإذاعات الرسمية لا تزال تراوح مكانها ولم تستوعب حتى الآن إيقاع الحياة السريع، واستطاعت الإذاعات الجديدة الخاصة أن تعيد إلى الراديو بهاءه وأهميته للمستمعين، بعد أن كادوا يهجرونه، وكاد عصر الراديو أن ينتهي.

وتشير إحصاءات خبراء في مجال الإعلان إلى أن الإنفاق الإعلاني في ما قبل ظهور الراديو الخاص في مصر أي قبيل عام 2003 كان لا يتجاوز 4 ملايين جنيه، والآن، وبالتحديد في عام 2009، أصبحت محصلة الإنفاق الإعلاني على الراديو تصل إلى 100 مليون جنيه.

دخل الراديو إلى مصر في الثلاثينات من القرن الماضي، وازدهر، وبات أحد أسلحة الحقبة الناصرية، ومع حرب يونيه (حزيران) عام 1967، والهوة الشاسعة بين البيانات الحماسية التي أذاعها آنذاك، وواقع الهزيمة المرة، انهار جزء من مصداقيته، ولكن حفلات أم كلثوم وعبد الحليم حافظت على الجزء الترفيهي من رسالة الراديو واستمرار وجوده.

ولم تسمح مصر بأن تكون هناك إذاعة خاصة، لكن مع دخول الألفية سمحت لشركة النيل للإنتاج الإذاعي بإطلاق إذاعة «نجوم إف إم»، وبالطبع من دون أن تسمح باقتحام الثالوث المقدس «الدين، والسياسة، والجنس». ورويدا رويدا أدخلت الإذاعة الناشئة برامج ترفيهية عززت من وجودها على الساحة وجعلتها ربما الإذاعة الأولى في منطقة القاهرة الكبرى، وأكدت ثقلها بإطلاق نسختها على الإنترنت، حتى يتابعها مستمعوها من جمهور السيارات وهم في أعمالهم.

يقول الدكتور سامي الشريف أستاذ الإذاعة والتلفزيون بكلية الإعلام في جامعة القاهرة، إن بريق الراديو ما زال متقدا، فحتى مع ظهور وسائل إعلام جديدة، حافظ الراديو على وجوده، بل طور من نفسه، واستفاد من الإنترنت للوصول لجمهوره، الذي لن يضطر إلى فتح الراديو للاستماع له وإنما يكتفي بكبسة زر على الكومبيوتر ويدخل للإذاعة التي يريدها، وهو يمارس عمله.

ويرى الشريف أن ظهور الإذاعات الخاصة ساهم بشكل إيجابي في إنعاش الراديو كوسيلة إعلامية مهمة، فالمنافسة أجبرت الإذاعات على تطوير أدائها للمحافظة على الجمهور واجتذاب المزيد.

ويقول محمد عبد الغفار مؤسس «نجوم إف إم»، ويعمل الآن مستشارا لكثير من الإذاعات العربية إن نجاح «نجوم إف إم» اعتمد على تقديم محتوى مختلف عن كل ما هو معروف من محتوى أو شكل فني متعارف عليه في الإذاعات المصرية، وتابع في لهجة ثقة: «كنا نريد أن نختلف عنهم».

ويوضح أن نجاح «نجوم إف إم» جاء بسبب التخطيط الصحيح ووضع خطة انتشار وبرامج مبنية على الأسس العالمية لكنها مقدمة بصيغة مصرية، وكل ذلك بالاعتماد على تقسيم السوق، فجمهور الصباح غير جمهور المساء، فهناك جمهور يستمع للإذاعة وهو ذاهب إلى العمل وقد لا يفعل في المساء، وهناك من يستمع إليها أثناء العمل أو المذاكرة، فكل فترة تحتاج إلى نوعية أغان معينة.

ويقول في حماس: «كنا نتساءل: ماذا يريد الجمهور؟ وكنا نفعله له ببساطة. هذه خلطة النجاح، لم نضع سورا مع الجمهور لنتكلم باللغة الرسمية، كنا نتحدث بلغة المواطن العادي، بأسلوبه في منزله فكان يشعر أننا قريبون منه».

وأضاف: «كنا نتواصل مع الجمهور واستفدنا من التطور التكنولوجي، وكانت استجابة كبيرة جدا من الجمهور للتفاعل معنا من خلال الرسائل القصيرة أو حتى التواصل على موقع الإنترنت».

هذا النجاح دفع الراديو الحكومي المصري لطرح مجموعة من الإذاعات المتخصصة لمنافسة «نجوم إف إم» في الترفيه والمنوعات، ومن المقرر انطلاق «شبكة راديو النيل» في يوليو (تموز) المقبل تحت اسم «NRN»، وتضم إذاعات «الدراما» و«الأغاني» و«الرياضة» و«حنين» و«المتخصصة في الطرب» و«كوميدي»، الأمر الذي سيشعل المنافسة بين الصبغة الحكومية بتراثها وقالبها التقليدي العتيق الذي أصبح ينفر منه المستمعون، وبين تجربة «نجوم إف إم» في فضائها الحيوي الحر، المفتوح على أشواق الإنسان في الحب والحلم والمتعة الخالصة.