تونس: مهرجان النسري يحتفل بـ«الزهرة الخجولة»

عاصمة زراعتها زغوان.. ومصدرها الأندلس

حلويات يدخل النسري في صنعها
TT

لعلها خجولة من أشعة الشمس الباهرة، فتحمر وجنتاها قبل أن يطل عليها المحب قاطفا عاشقا...

هي كذلك لا تريد الكسالى وتبحث عمن يحبها ويسعى لملاقاتها مع ساعات الفجر الأولى، فإن تأخر عنها ذبلت واسترخت وبهت لونها فهي إلى الموت أقرب.

زهرة بيضاء اللون، ناصعة البياض، تعكس تماما المشاعر الداخلية على صفحة وجهها، ولا تخبئ عن محبها شيئا. إنها زهرة النسري (أي النسرين في دول المشرق العربي) التي تشتهر بها ولاية (محافظة) زغوان، الواقعة على بعد 60 كلم من العاصمة التونسية تونس، التي تحتفل سنويا بمهرجان قطف زهور النسري التي تعول عليها المدينة في استعادة الكثير من تألقها الاقتصادي والسياحي.

موسم قطاف زهور النسري يحل سنويا خلال النصف الثاني من شهر مايو (أيار)، وهو يشكل مناسبة احتفالية كبيرة في المنطقة، وكذلك في عاصمتها زغوان. مع الإشارة إلى أن هذه الزهور الأخاذة العطرة تينع خلال هذه الفترة، وينتشر عطرها بين شوارع المدينة الجبلية المطلة على كل أنحاء العاصمة. وبالتالي ينهمك المواطنون في قطف الزهور وتقطير أفضلها في حركة دؤوبة تستمر لعدة أيام بين حدائق النسري الممتدة شجيراتها على مساحة 15 هكتارا. ولمن يهمه الأمر، فإن زهور النسري تطلب من محبها أن يقطفها قبل طلوع الشمس، وأن يقطرها خلال اليوم ذاته حتى لا تفقد الكثير من خصائصها. عن زهور النسري - أو النسرين - تقول سندة فاضل، مديرة مهرجان النسري في زغوان، الذي بلغ الدورة 28: «هذه النبتة الجميلة جلبتها العائلات الأندلسية الوافدة على مدينة زغوان خلال القرن السابع عشر للميلاد، ومنذ ذلك التاريخ توارثتها العائلات كدلالة على المكانة الاجتماعية ونبل الأصول العائلية، ولقد انتشرت خلال العقود الأخيرة لتشمل معظم العائلات القاطنة في المدينة. كذلك تطورت الغراسات (أي البساتين التي غرست فيها) فشملت مناطق خارج مدينة زغوان، على غرار مدينتي صفاقس وأريانة، إلا أن الخصائص والمميزات التي تعرفها زهور النسري في زغوان لا تجد لها نظيرا في بقية المناطق التونسية» كما ذكرت محدثتنا. وأرجعت سندة فاضل هذه الميزات إلى أن زهور النسري «نباتات عزيزة» كما عبرت عن ذلك، وتابعت: «وجاء اختيار مدينة زغوان من قبل العائلات الأندلسية إلى تلاؤم المناخ مع تلك النبتة. فالمياه في زغوان تقارب درجة ملوحتها الصفر، كما أن طقسها جاف وقليل الرطوبة، ويغلب عليه الطابع الجبلي، وهو ما يتماشى تماما مع سلوكيات هذه النبتة».

وأوضحت سندة فاضل، من ناحية ثانية «أن المشرفين على المهرجان يسعون إلى غراسة نبتة نسري في كل منزل من منازل المدينة، وهو ما سيجعل منها خلال السنوات القليلة المقبلة عاصمة زهور النسري بلا منازع». وأردفت «أن التفكير جار منذ الآن في تركيز نقطة بيع تربط مباشرة بين الفلاح والمستهلك، وذلك خلال الدورة المقبلة للمهرجان، وذلك في محاولة للضغط على التكاليف وقطع الطريق أمام المضاربين».

على صعيد آخر، تطل آلة التقطير التقليدية على القادمين إلى المهرجان من أركان مجموعة مهمة من بيوت زغوان، ويحتفل الأهالي بهذه النبتة، ويهدون عطورها بعضهم لبعض تعبيرا عن الألفة والمودة. وإذا أراد أحد سكان مدينة زغوان أن يكرم وفادة ضيفه قدم له الشاي أو العصير أو القهوة أو حتى كأس الماء العادية الباردة معطرة بماء زهر النسري، المنتشرة زهوره في المقاهي والمحلات السياحية والشوارع الرئيسة في المدينة. كذلك تستغل نساء زغوان ماء النسري، بالخصوص، في إعداد الحلويات المتنوعة، وخاصة «كعك الورقة»، كما تقدمه إلى ضيوفها محلى بالقليل من السكر.

وعن الاستعمالات الكثيرة لماء النسري، قالت نسيمة حمودة (32سنة)، التي تشتغل في ميدان الحلويات المطعمة بماء النسري منذ ما يقرب من عشر سنوات: «إن العائلات التونسية تقبل بكثافة على حلويات (كعك الورقة) المميزة بماء النسري المصنوع في زغوان، وتؤكد أن هذه المياه مفيدة للجهاز الهضمي ولأمراض القلب والشرايين.. وهو ما تتناقله الأجيال بعضها عن الآخر من أبناء المدينة». أما عن الأسعار المعروضة خلال هذا الموسم، فإن نسيمة تؤكد أن سعر اللتر الواحد من ماء النسري مقدر بحوالي 40 دينارا تونسيا (حوالي 28.5 دولار أميركي)، وكان خلال الموسم الماضي في حدود الـ30 دينارا تونسيا، وعزت نسيمة هذا الارتفاع إلى العوامل المناخية «التي لم تساعد في ضمان موسم فلاحي جيد». وأكدت نسيمة، من ناحية أخرى، على أن سعر الكيلوغرام الواحد من زهور النسري يقدر حاليا بما بين 27 و30 دينارا تونسيا بعدما كان السعر لا يتجاوز 18 دينارا خلال الموسم الماضي. وهي تؤكد على مرور جميع مراحل عملية التحويل أمام ناظريها، بدءا من عملية الجني - باعتبارها مالكة لحقل من النسري - وعبورا إلى التقطير، وهي أيضا مالكة «بيت تقطير»، كما تقول، وانتهاء إلى تعبئة مياه النسري وتخزينها للاستعمال طوال السنة. وأشارت إلى أنها تحتاج إلى ما يقرب من نصف طن من زهور النسري لتأمين حاجتها السنوية.

يبقى القول إن صابة - أو غلَّة - هذا الموسم قدَّرها المشرفون على مهرجان النسري من خلال معطيات قدمتها المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية في زغوان بحوالي خمسة أطنان. وجرى خلال هذا الموسم برمجة توزيع قرابة أربعة آلاف شجيرة نسري على مزارعي حدائق زغوان وبساتينها في إطار مشروع رئاسي يهدف إلى تثمين نبتة النسري وتطوير غراستها لكي تمتد على حوالي 30 هكتارا، وذلك وفق حساب خمسة هكتارات كل سنة. وللعلم كانت مدينة زغوان قد عاشت على وقع الدورة 28 لمهرجان النسري لفترة تزيد على الأسبوع من 21 إلى 29 مايو (أيار) الماضي.