حارة القيمرية الدمشقية تستعيد مكانتها بفضل السياح والفن

لقبت بـ«الهند الصغيرة» لموقعها الاقتصادي والتجاري والجغرافي الهام

عرفت القيمرية بمكانتها الاقتصادية منذ تأسيسها قبل 200 سنة («الشرق الأوسط»)
TT

يتنهّد عبد الكريم بدير، أبو مازن، السبعيني الوقور، وهو يستقبلنا في محله الذي يبيع فيه كل شيء له علاقة بالتراث والعاديات (الأنتيكا)، مشيرا إلى عدد من الدكاكين المجاورة لمحله، في حارة القيمرية الدمشقية القديمة، ويقول: «قبل عشر سنوات كان هنا أقدم حلاقي دمشق.. لكنه ترك مهنته وباع محله للقادمين إلى حارتنا لاستثمار أبنيتها سياحيا. على أي حال باعه بسعر جيد. وهناك، كان جاري (الحمّصاني) الذي يبيع ويحضر الفول والتسقية... وكذلك باع محله بسعر جيد. ومقابل دكاني كانت توجد مطبعة قديمة اشتراها أحدهم وحوّلها إلى ورشة لإنتاج تراثيات شرقية..».

وتابع: «هكذا فعل كثيرون، ولم يبق سوى قلائل ما زالوا مصرّين على التمسك بدكاكينهم ومهنهم القديمة، منهم ذلك الدكان (يشير إلى دكان صغير قريب من دكانه)، فهو لأقدم بائع ليموناده دمشقي ويدعى (العجم)، وهو ما زال مصرّا على العمل بالشكل اليدوي، رافضا مغريات التحول إلى النمط الحديث أو تحويل محله لبيع العصائر، مثلا، وبالشكل الآلي أو تحويله إلى كافيتيريا ومقهى. في حين أن جاري البسكليتاتي (مصلح وبائع الدراجات الهوائية) باع محله قبل عشرة أيام، وينقل أغراضه حاليا ليسلمه لمن اشتراه.. وبالمناسبة، المشتري سيحوله لبيع أعمال فنية».

ويعود أبو مازن إلى الكلام بمزيد من الحنين والحسرة فيقول: «صحيح أن حارتنا (القيمرية) عرفت بمكانتها الاقتصادية منذ تأسيسها قبل مائتي سنة، وكانت تعج بالمتسوّقين الآتين من مختلف حارات دمشق القديمة، لكنها كانت تتميز بالهدوء والسكينة، ولا سيما، مع حلول المساء والليل. وبالتالي فشيء جيد حاليا أن تعود لها هذه المكانة التجارية والاقتصادية... إلا أننا لم نكن نتوقع أن تكون العودة بهذا الشكل الكثيف والسريع، وبازدحام يضاهي الازدحام الذي تشهده الأسواق التجارية الشهيرة. فالفارق أن الأسواق لها مواعيد في الفتح والإغلاق، أما هنا في القيمرية فحركة الناس والسياح والزوار متواصلة طيلة اليوم، يرتادون المقاهي والمطاعم التراثية وصالات العرض الفنية. نعم، تغيرت حارتنا كثيرا يا صاحبي خلال السنوات العشر الأخيرة... وبعضهم يعتقد أننا نربح كثيرا من تجارتنا مع وجود هذا العدد الكبير من السياح، لكنه قد لا يعلم هؤلاء أن معظم هؤلاء السياح يجادلونني في السعر!».

حكاية القيمرية، الحارة الدمشقية القديمة الجميلة، التي لقبت ذات يوم بـ«الهند الصغيرة» لما لموقعها التجاري والجغرافي من أهمية وسط دمشق القديمة، حكاية تطول. فهي تجمع بين مفهوم السوق بمعناها ووظيفتها الاقتصادية، وبين المنطقة السكنية بمنازلها التقليدية الواسعة، أي أنها تضم الدكاكين كحال سوق الحميدية مثلا، والبيوت المسكونة من قبل أصحابها كحال حارات العمارة وغيرها. ولموقع القيمرية المكاني أيضا أهمية كبرى، فهي تصل ما بين منطقة النوفرة وقهوتها الشهيرة ونافورتها التراثية والجدار الجنوبي للجامع الأموي وبين منطقة باب توما.

حكاية القيمرية قد تكون شبيهة بشبيهاتها من حارات دمشق القديمة التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى مناطق تضج بالحياة والناس مع انتشار المشاريع السياحية التراثية فيها، بيد أنها تظل تتمتع بخصوصيتها وسط باقي الحارات. فهي، بأزقتها المتعددة، تعد الحارة الأكثر جذبا للباحثين عن أماكن وبيوت تقليدية ودكاكين لتحويلها إلى مشاريع سياحية. ولذا لا تخلو وسيلة إعلانية سورية من عرض لبيع بيوتها الشامية التقليدية من قبل أصحابها أو الورثة الذين انتقلوا إلى السكن في حارات دمشق الجديدة، مستفيدين من الأسعار العقارية الجيدة للبيوت التقليدية عند بيعها لمن يرغب من المستثمرين السياحيين. وللعلم، كانت القيمرية الحارة الدمشقية القديمة الأولى التي شهدت ولادة أول مقهى ومطعم تراثي هو مطعم «بيت جبري» ومقهى وغاليري «عالبال»... ولتكرّ السبحة في ما بعد. إذ أسس فيها خلال السنوات الخمس الماضية عشرات المقاهي والكافيتيريات التي استقطبت كثيرين من السياح والمثقفين والكتاب وكوادر المسلسلات التلفزيونية السورية المعاصرة والشامية، وكلهم وجدوا فيها المكان الأنسب لتصوير مشاهد أعمالهم الدرامية. حتى إن عملا دراميا شاميا من عدة أجزاء أخذ اسمه منها، ألا وهو مسلسل «أولاد القيمرية».

ونعود إلى أبو مازن، الذي انشغل عنا قليلا ليرد على طلبات بعض الزبائن، ثم قال لنا: «كل يوم يأتي عدد كبير من هواة جمع الأشياء التراثية لشرائها، وفي المقابل هناك من يعرض علينا أن نشتري ما يعتبره (قطعا نادرة) يملكها ويطلب بها أسعارا مرتفعة لا تستحقها». ويحدثنا أبو مازن عن تاريخ حارته القيمرية، حيث ولد ونشأ وعاش مع أسرته منذ عشرات السنين، قائلا: «حارتنا قديمة جدا، وضمت عائلات دمشقية معروفة، مثل آل جبري وبدير والشاش والبزم وفرفور والحلبي وغيرها.. ولكنّ كثيرين منهم غادروا الحارة للسكن في الأحياء والبيوت الجديدة أو سافر خارج دمشق. والقيمرية حارة كبيرة تتوسط مكتب عنبر وحارة الصواف ومدحت باشا وتلة القاضي وحارة النارنج والعمارة الشرقية وطالع الفضة وحمام البكري وباب السلام. أما تسميتها فجاءت من علامة دمشقي سكن الحارة وبنى الجامع، ويدعى أبو المعالي ناصر الدين بن أبي الفوارس القيمري الكردي... والجامع الذي يحمل اسمه بني عامة 1267م ولا يزال موجودا وله تسمية شائعة هي (جامع القطاط)، وذلك لأن خادم الجامع قبل مائتي سنة كان يجمع القطط الموجودة بجانبه ويقدم لها الطعام بشكل دائم. ولا يزال هناك منزل مقابل الجامع يقوم سكانه بإطعام القطط في حالة إنسانية ومن باب الرفق بالحيوان. والجامع حاليا تحوّل قسم منه إلى مدرسة لتعليم طلبة العلم أصول الدين، في حين يستقبل قسمه الآخر المصلين من أهل الحي».

وأردف: «تضم الحارة نحو 250 محلا وعشرات المقاهي والمطاعم التراثية، وهناك حمام القيمرية القديم الذي ظل يعمل كحمام سوق حتى قبل خمسة أشهر فقط حين باعه صاحبه وسلمه لمشتريه، وقد يتحوّل إلى مطعم».

ويعتز أبو مازن، وهو يتحدث عن حارته، بأن القيمرية «خرّجت الكثير من أشهر علماء الدين الدمشقيين مثل الشيخ صالح فرفور وعبد الرزاق الحلبي وأديب الكلاس وغيرهم، ومنهم من تسلم دار الإفتاء بدمشق ودرس في جامع ومدرسة البدرائية في القيمرية. ولا تزال هناك مدرسة تابعة لمعهد الفتح وتضم طالبات التعليم الديني اللواتي يقمن فيها بشكل دائم وتقدم لهن الخدمات كافة».

وليس بعيدا عن دكان أبو مازن دكان رشيد هواري، الذي يعمل خياطا تقليديا منذ 30 سنة، وهو أيضا يقول: «لا أدري إلى متى سأظل أعمل في هذه المهنة المنقرضة تقريبا. إذ لم يعد لمهنتنا زبائن، وكل ما نعمله اليوم يقتصر على التصليح وتركيب (السحّابات) وتقصير البنطلونات... ما عاد في القيمرية أناس يفصّلون ألبسة، بل الكل يعتمد على الجاهز منها».