متحف حاجي ميليتش.. دارة تروي تاريخ البوسنة

مؤسسه هاجر من سورية قبل 300 عام

أدوات قديمة وسجاد عتيق بالمتحف («الشرق الأوسط»)
TT

متحف حاجي ميلي، أو ميليتش، حسب الإضافة التي عرفتها الألقاب، حيث كان يسمى بيوغسلافيا السابقة، مختلف عن أغلب المتاحف في العالم، فهو يقع في عرض الطبيعة، وفي أجمل الأماكن بالبوسنة، على منحدر، فوكيليتش، على بعد أكثر من 50 كيلومترا غرب العاصمة البوسنية سراييفو.

تعود جذور عائلة ميليتش إلى آل البيت، عليهم السلام، فقد قدم محمد ميلي، من مدينة حلب في سورية إلى البوسنة قبل أكثر من 300 عام، وأقام بالمنطقة الجبلية. وتحتفظ الأسرة في المتحف بشجرة النسب النبوي في غرفة خاصة، تحيط بها هالة من القدسية والمشاعر الروحانية.

وقال سليل الدكتور كاظم حاجي ميلي، أستاذ تاريخ الفن الإسلامي بكلية الفلسفة، وأستاذ فن الخط العربي والفنون الإسلامية بأكاديمية الفنون بسراييفو، والذي يمثل أحد أفراد الجيل الخامس للعائلة في البوسنة لـ«الشرق الأوسط» إن مجيء جده الأول محمد ميلي إلى البوسنة كان في عام 1795. وكان مثقفا ويتكلم عدة لغات، وقد عمل مفتشا في المدارس التركية بإسطنبول، ومفتيا في سكوبيا، ومدرسا في زينتسا بوسط البوسنة، ومفتيا بليفنو في جنوب البوسنة. ولم تغادر الأسرة البوسنة بعد انحسار ظل الخلافة العثمانية، وهجرة الكثير من الأسر الميسورة إلى تركيا وحواضر العالم الإسلامي الأخرى آنذاك في دمشق، والرباط، والقاهرة، وبغداد وغيرها. واحتفظ حاجي ميلي الأول بمنصبه في الحقبة التي أعقبت خروج العثمانيين من البوسنة ومنطقة غرب البلقان على أثر توقيع اتفاقية برلين سنة 1878.

ويقول الدكتور كاظم ميلي إن والده مسعود ميلي، الذي ورث علم والده محمد، رأى رؤية في المنام، أنه يعود إلى منطقة فوكيليتش، ويؤسس مدرسة إسلامية ثانوية في عهد المملكة اليوغسلافية تخرج فيها الكثير من الطلاب، ويضيف: «تخرج في المدرسة 70 طالبا، وأنهى ثلاثة طلاب حفظ القرآن كاملا، في الفترة التي أغلقت فيها المدارس الإسلامية». لم تستمر المدرسة بعد ذلك طويلا، لا سيما بعد وفاة مسعود ميلي، فحولها الدكتور كاظم مسعود محمد ميلي، إلى متحف. يتكون المتحف من ثلاثة طوابق، يضم الطابق الأول معدات قديمة استخدمت في الحقب الماضية، ومنها ماكينات خياطة قديمة، وأدوات وماكينات غزل عتيقة، وأثاث تقليدي يعود لعقود طويلة كالسجاد اليدوي، وأباريق وصناديق لحفظ الثياب والمؤن.

وضمت المحتويات أيضا سروجا، ومخلاة توضع فوق السروج لتدلى على جنبي الحصان، قال عنها الدكتور كاظم حاجي ميلي إنها «زارت البقاع المقدسة أكثر من 100 مرة» عندما كان الناس يحجون على ظهور الدواب ومنها الخيول المسرجة. كما يلاحظ الزائر أواني النحاس الكبيرة التي كان يطبخ فيها الطعام للجنود، وفي المناسبات الكبرى كالاحتفالات الدينية، والأعراس، وحفلات الختان، بالإضافة إلى مدافئ، وأدوات قديمة لكي الثياب وغيرها من الأدوات والأثاث. كما يوجد كتاب عن تاريخ فلسطين باللغة الهولندية صادر في سنة 1677 وأجهزة راديو قديمة من مختلف الأحجام، وأواني فخار، وشمعدانات تعود لعصور سحيقة، وبعضها يعود للقرن الثاني والثالث عشر. وأجهزة هواتف قديمة وزجاجات عطور من عصور غارقة في القدم. ومرايا لها أبواب لا توحي للناظر بأنها كذلك، إلا عندما يفتح تلك الأبواب التي تشبه أبواب السرايا القديمة، فيكتشف المرآة. وعلق الدكتور كاظم، الذي كان يرافقنا خطوة بخطوة: «لم تكن النساء مهتمات كثيرا بالمرآة طوال الوقت، وإنما في أوقات معينة، ولذلك جعلت للمرايا أبواب». وفي ردهات المكان دوح صغير، قال عنه الدكتور كاظم ميلي إن «25 طفلا تناوبوا على المكوث فيه أثناء فترة الرضاعة والمهد»، وبجانبه أسطوانة من الخشب مفتوحة من أسفلها وأعلاها، كان يوضع فيها الأطفال الصغار لتعلمهم الوقوف بعد مرحلة الحبو. وفي الطابق الثاني، توجد مجموعة من خرائط العالم القديم، مما يكشف أن «الأتراك والبوسنيين كانوا على علم وافر بخرائط العالم في ذلك الحين، فالخرائط الموجودة في المتحف تقدم صورة العالم قبل أكثر من 150 عاما. ويمكن مشاهدة خرائط للقارات الخمس آسيا وأفريقيا وأوروبا والأميركتين وأستراليا.

كما يشاهد الزائر نماذج من شواهد القبور العتيقة التي تتميز بوجود فتحات في أعلاها تُملأ بالماء لتشرب منها الطيور، لتحصيل الثواب للميت. كما تملأ جدران الطابق الثاني لوحات نادرة من فن الأبرو (النقش على الماء).

وفي الطابق الثالث، وضعت شجرة النسب النبوي الشريف، ولوحات الخط العربي، التي رسمها خطاطون مشهورون في الحقب الماضية، يعود بعضها إلى بداية القرن العشرين، وبعضها إلى عصور سابقة لم تحدد في المعرض الدائم الذي يحتوي عليه المتحف. وهناك لوحات لسامي أفندي، الذي قال عنه الدكتور كاظم إنه يفوق بيكاسو في عالم الفن التشكيلي، شهرة لدى الخطاطين في العالم. ولوحات للرسام علي حيدر بوشناق، ونجم الدين، وعلي ألب أرسلان، وحسن شلبي، وكمال بطاناي، وعزيز أفندي، ونور بي مير علي، وغيرهم. كما توجد لوحات للدكتور كاظم ميلي ضمن اللوحات المعروضة في المتحف، وصورة السلطان الأشهر، محمد الفاتح. وقال الدكتور كاظم حاجي ميلي: «يأتي الناس إلى هنا من كل حدب وصوب، فهو ليس مكانا جميلا فحسب، وليس متحفا يضم أدوات نادرة، ومنها محامل صنعت من قرون الآيل وغيرها فقط، بل لأن المكان، أيضا، مركز روحاني في البلقان». وأردف قائلا: «نريد أن ندشن موقعا على الإنترنت للمتحف، وأن تزورنا وسائل الإعلام من مختلف الجهات من حين لآخر، كما نريد إصدار كتاب تعريفي بالمتحف والمكان، فنحن في حاجة للعودة للجذور دون انقطاع عن الحاضر وبتطلع كبير نحو المستقبل». وعبر عن أمله في إقامة متحف كبير في سراييفو. وشدد على أن المتحف سيسجل كوقف لا يمكن التصرف فيه من قبل الأجيال القادمة للأسرة، وذلك ضمن وصية سيكتبها بنفسه، حسب ما قال لـ«الشرق الأوسط». كما يتطلع الدكتور كاظم ميلي إلى إقامة أوقاف يصرف منها على المتحف والمرافق التابعة له. وتحدث عن كتابه حول فن الخط العربي والفنون الإسلامية الأخرى، كالتجليد والتذهيب والنقش والزخرفة، والذي نال بسببه عدة جوائز تقديرية في معارض الكتاب والجوائز الثقافية السنوية في المنطقة. وكان الدكتور كاظم قد حصل هذا العام على جائزة عيسى بك إسحاقوفيتش الثقافية، وجائزة معرض الكتاب في سراييفو على كتابه الأخير. ويضم الكتاب عدة فصول عن أوقاف الغازي خسرف بك، وما بها من فنون جميلة، والفرق بين الفنون الإسلامية والغربية، وطرق ترميم المخطوطات والكتب القديمة. وكان الدكتور كاظم ميلي قد حاضر في الرياض والكويت وتركيا عن الفن الإسلامي وفن الخط العربي بالخصوص، وأقام 77 معرضا حول العالم. كما قام بترميم مصحف عثمان (رضي الله عنه) بإسطنبول، والكثير من الأعمال في متحف برلين الذي يضم أشهر المخطوطات وأغلاها في العالم. كما قام بترميم ديوان السلطان سليم الثالث، وهو من نفائس المخطوطات المرصعة بالذهب والجواهر.