نساء قرية الصيادين يغزلن شباك الصيد.. وينتظرن رزقا في علم الغيب

فاطمة ساعدت والدها وزوجها في صناعة الشباك لـ50 عاما

بعد غزل شباك الصيد يجول المركب سطح البحيرة من اجل رزق مقدر ومقسوم («الشرق الاوسط»)
TT

من أعلى تبة تشرف على بحيرة التمساح وقناة السويس، ارتجل صيادون مصريون منذ زمن بعيد قرية تقع على الجانب الغربي من بحيرة الصيادين بالإسماعيلية (شرق البلاد) بمنطقة الحلوس. في الدروب الضيقة لهذه القرية الصغيرة، جلست الحاجة فاطمة سعيد تتحسر على زمن كانت قادرة فيه على غزل شبكة والدها في يومين، لكنها اليوم أصبحت تستغرق أسبوعا كاملا في إعدادها.

ضعف نظرها وسنها الكبيرة لم يمنعاها من التوقف عن حرفتها التي ورثتها عن أجدادها، تقول فاطمة (63 عاما): «تعلمت غزل الشباك منذ أكثر من 50 عاما.. كنت طفلة أتابع والدي وجدي وهما يقومان بغزل الشباك من خيوط الحرير والبلاستيك».

الغالبية العظمى من سكان القرية من الصيادين الذين يجدون في سكناهم على البحيرة، التي تعد امتدادا طبيعيا لبحيرة التمساح، بابا للرزق، فموقع القرية على شاطئ البحيرة جعلها تحتضن تجمعات الصيادين.. بينما على الجانب الآخر من الطريق الترابي، الذي يفصل بين البحيرة ومنازل الصيادين، تمتد مزارع المانجو التي تشتهر بها الإسماعيلية عالميا.

مع بزوغ فجر كل يوم، يخرج الصيادون نحو البحيرة لبدء أعمالهم اليومية في صيد الأسماك، وتقوم النساء بإعداد أعمالهن المنزلية للتفرغ عقب ذلك لإصلاح شباك الصيد التي تمزقت في صراع الرزق من أزواجهن أثناء الصيد، بينما تقوم أخريات بغزل الشباك ونسج خيوطها.. ويجد الصيادون، ممن أقعدهم المرض والسن عن النزول للبحر، في غزل الشباك وصناعة الصنانير وصب الرصاص المستخدم في الشباك فرصة للعمل تدر دخلا عليهم. فالكل هنا يعمل بالصيد والحرف المرتبطة به.

من بين هؤلاء الحاجة فاطمة التي تبرع في صناعة أنواع الغزل جميعها والتي تستخدم كل واحدة منها في صيد نوع من الأسماك، تقول: «الحمد الله أنا أعرف أسرار جميع أنواع الشباك، سواء تلك التي تستخدم في صيد الكابوريا وتكون من طبقة واحدة من الخيوط، أو التي تتكون من ثلاث طبقات لصيد الشبار وغيرها من الأنواع المختلفة للشباك».

لكن فاطمة التي تعرف حال البسطاء من أبناء قريتها لا تتقاضى أجرا مناسبا لجهدها، فهي تبيع شباكها بـ35 جنيها فقط، فهي ابنة صياد وحفيدة صياد وتشعر بألم الناس في قريتها وحاجتهم، و«الناس للناس» كما تقول.

على بعد عشرات الأمتار، كانت شمعة سعد محمد تفرش خيوطا بلاستيكية رفيعة تقوم بغزلها بطريقة هندسية حرفية تصنع منها شباكا مختلفة الأحجام.

تقول شمعة (49 عاما): «تعلمت غزل الشباك منذ كنت طفلة صغيرة من والدي ووالدتي، فقد كان أبي صيادا ماهرا وكان يعلّم أمي صناعة الشباك ليتمكن من بيعها للصيادين من جيراننا وأقاربنا بالقرية حتى تدر دخلا إضافيا يعين والدي على تحمل متطلبات الحياة اليومية».

وتضيف: «كنت أرقب عن بعد والدتي وهي تغزل الشباك،وكنت أساعدها في الأعمال الجانبية كأن أعد معها الخيوط وأحضر لها الرصاص الذي يعلق في الشباك».

تتابع شمعة: «ومنذ هذا الوقت وأنا تعلمت صناعة وغزل الشباك. وبعد أن تزوجت، استطعت أن أساعد زوجي في توفير مصاريف المعيشة». وحول طبيعة عملها تقول: «يستغرق العمل في شبك الفرقة (أحد أنواع الشباك) ثلاثة أيام، أما شبك (الطرّاحة) فيستغرق وقتا أطول، لأنها صعبة ومعقدة. الشبكة الواحدة قد تتكلف 200 جنيه، الزبون يشترى الخامات المستخدمة في الشبكة من خيط حرير (يتراوح سعره من 15 إلى 17.5 جنيه للكيسة الواحدة.. و65 جنيها للكيلو) ورصاص وحبل وغيرها من الأدوات. وأنا أقوم بعمل الغزل وتتراوح مصنعيتي (أجرها عن العمل) ما بين 10 و35 جنيها حسب مقاس الفرقة».

وتذكر شمعة: «في الماضي، كانت الشباك تصنع من الخيط القطن، أما الآن فأصبح يصنع من الخيط الحرير، وأصبح كل ما نقوم به تركيب الرصاص بالضهارة (أسفل الشبكة)، وكانت قديما تصنع بالحبل. أما الآن، فهي تصنع بالشعر، ووضع الفِل (الفلين) بالحبال في أعلاها باستخدام المخياط، ومع ذلك فهي عملية صعبة جدا».

كرات الرصاص الصغيرة المثبتة في أطراف الشباك لدعمها وثقلها هي الأخرى لها داخل العزبة صناع وحرفيون من السيدات يقمن بصنعها، منهم أم هاشم التي أقعد زوجها المرضُ ومنعه عن النزول للبحر، تقول: «تستغرق صناعة الصنارة يومين من العمل بمتوسط 10 ساعات في اليوم وتصل أجرتها للصنارة الواحدة 10 جنيهات». هذا الرصاص المصبوب يستخدمه صانعو الشباك والصنارات لتثبيت خيوط الغزل وإكسابها ثقلا يمكنها معه إضافة ثقل للشباك حتى تغطس في المياه ولا تطفو. تضيف أم هاشم: «يتم تجهيز الرصاص عن طريق صهر الخام حتى يصبح سائلا، ثم يصب في قوالب على أشكال بيضاوية طولية مفتوحة من الجانبين لا يتعدى طول الواحدة منها 3 سم تقريبا وتحتاج الشبكة الواحدة إلى 1050 رصاصة تقريبا». وتتابع: «نحصل على الرصاص الخام من بائعي الخردة بسعر 5 جنيهات للكيلو، وبعد إعادة تصنيعه نبيعه بسعر 8 جنيهات للكيلو». بعد هذا الجهد، لا يبقى إلا أن يجول المركب سطح البحيرة من أجل رزق في علم الغيب يؤمن الصيادون أنه مقدّر ومقسوم.. فلا حاجة بهم إلا التوكل على مقسم الأرزاق.