«سوق النحاسين» في دمشق.. تشهد على تلاشي مهنة عريقة

لم يبق فيها سوى 4 ورش و30 حرفيا شابا

إحدى الورش في سوق النحاسين في دمشق («الشرق الأوسط»)
TT

في زقاق متفرع من شارع الملك فيصل الفاصل ما بين «دمشق القديمة»، داخل السور، والجزء الأحدث من العاصمة السورية خارج السور، مقابل «سوق المناخلية» القديمة، تقع «سوق النحاسين».

نشأت هذه السوق منذ مئات السنين، عندما كان السوريون يعتمدون على النحاس المصنع والمحول إلى مستلزمات وأوان للمطبخ والموائد والبيوت وغيرها. غير أن مكانة السوق أخذت منذ ثلاثين سنة أو أكثر عند العائلات الدمشقية مع انتشار «ثقافة» البلاستيك والألمنيوم و«التيفال» والفولاذ المقاوم للصدأ (الستانلس ستيل) في مجال مستلزمات البيوت والمطاعم والفنادق وخلافه. ومع تراجع مكانة السوق.. قل الطلب، وتلاشى الحرفيون القدامى الذين كانت مطارقهم لا تهدأ من صباح كل يوم وحتى ساعات العصر.. بحيث كانت تسمع دقات المطارق في كل محيط منطقة السوق، بل وتصل حتى ساحة المرجة الشهيرة التي لا تبعد عن السوق أكثر من 500 متر.

على الرغم من هذا الواقع، وانخفاض عدد رواد سوق النحاسين، ما زال عدد من الحرفيين الشباب يعملون في محلاته وورشه، بينما غاب عنه جميع كبار السن من «معلمي» تصنيع النحاس. وحده سعدو الصباغ «أبو جاسم» لا يزال متمسكا بعمله منذ ثمانين سنة، وهو الذي بلغ الخامسة والتسعين من العمر.

وحده «أبو جاسم» من أبناء جيله لا يزال يستخدم مطارق النحاس ويستعملها لتهيئة وعاء نحاسي لزبون آت من ضواحي دمشق أو من قرى غوطتها. فهؤلاء يصرون على أن يكون النحاس حاضرا في منازلهم كما يحرصون على السؤال عن «أبو جاسم»، المعّلم الوحيد القديم الباقي من جيل «المعلمين» القدامى في سوق النحاسين.

ووسط ضجيج المطارق في أيدي النحاسين الشبان القلائل، سألنا عن «أبو جاسم». ولما وصلنا إلى دكانه الذي ما زال محافظا على كل أدوات نحاسي القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، استقبلنا «المعلم» التسعيني مبتسما ومعلقا: «كل أبناء جيلي غادروا هذه الحياة الفانية أو باعوا محلاتهم وورشهم في السوق، لكنني لم أفعل ذلك. ولكن أبنائي لم يرضوا أن أعلمهم مهنة النحاس اليدوية بل عملوا في مهن عصرية».

وأضاف «أبو جاسم» شارحا «عمر سوقنا يتجاوز المائتي سنة، وكان يستقبل الزبائن من كل المدن السورية ومن مختلف أطياف المجتمع السوري، وأذكر من زبائننا كبار الشخصيات الدمشقية التي كانت تحرص على شراء مستلزمات المضايفات من دِلال القهوة العربية ومناقل النحاس ومستلزمات المناسبات الاجتماعية من سوقنا.. ومن عمل الحرفيين المعلمين القدامى. كذلك كان بعض زبائننا يأتون من فلسطين والأردن والعراق، حيث تمتع النحاس الدمشقي بشهرة واسعة. أما اليوم فما عاد يأتينا زبائن من المدن لأن سكانها يبيعون ما لديهم من نحاس قديم، وزبائن السوق حاليا من الريفيين والمزارعين ومن حوران والبادية وهؤلاء نصنّع لهم بعض الأدوات والأواني الكبيرة التي يحرصون على أن تكون مصنوعة من النحاس الأصلي الذي يدوم طويلا عندهم ويتباهون به أمام ضيوفهم. ومن هذه الأدوات التي ما زلنا نصنعها الأوعية الكبيرة التي تصب فيها (المناسف) داخل أماكن الضيافة في منطقة حوران والبادية وهناك (الحلات) (جمع حلّة) الواسعة جدا التي يقبل الفلاحون على شرائها لاستخدامها في غلي الحليب وتحويله إلى منتجات كالزبد واللبن والجبن البلدي. كذلك تستخدم (الحلات) عند أهل الأرياف أيضا لسلق القمح في الصيف إذ يحصونه ويسلقونه في حلات نحاسية، ومن ثم يجففونه في ما بعد ويحولونه إلى (برغل) و(فريكة) وغير ذلك».

وتابع: «وهناك طبعا زبائن لهم مزاج خاص يشترون مثلا قلايات وطناجر نحاسية كونهم ما زالوا يطبخون طعامهم على الحطب، ومن هؤلاء خصوصا هواة السيران - أي النزهات - إلى الغوطة وطهي الطعام في نزهات السيران باستخدام الطريقة القديمة المسماة بين الدمشقيين (الكانونة). وهم يعتبرون الطهي على الحطب وفي أوان نحاسية متعة رائعة وطريقة تراثية».

وحول عدد العاملين في السوق حاليا، قال «أبو جاسم» إنه «لا يوجد اليوم سوى نحو 30 حرفيا من الجيل الشاب وهم يعملون في أربع ورش فقط... بعدما كان عددنا في الماضي نحو 400 حرفي نحاس. ولم يبق من القدماء المعلمين سوى اثنين، أنا وزميل آخر لم يعد يعمل، أما أنا فأعمل، ولكن بشكل بسيط.. بعدما تعرضت لإصابة في رجلي بسبب وقوع المطرقة عليها. ولعلمك فإن أبنائي رفضوا أن أورثهم المهنة وسافروا خارج سورية. والسبب أن المهنة انقرضت ولم يعد لها زبائن، كما برروا لي. ومعهم حق.. فالمهنة منقرضة تقريبا، وحتى إذا أراد شخص أن يشتري حاليا وعاء من النحاس لمطبخه يضحك من اختياره أصدقاؤه ويقولون له: أنت من الطراز القديم وعقليتك غير عصرية!».

وحول طبيعة البيع والتصنيع، قال «أبو جاسم» موضحا «ما يميز المنتجات النحاسية المصنعة في سوقنا أنها تباع بالكيلوغرام لا بالقطعة، كما هو الحال مع الأواني المعدنية والزجاجية والفخارية وغيرها. فنحن نصنع الوعاء النحاسي ونعرضه في الدكان، وعندما يأتي الزبون لشرائه نقوم بوزنه وحسب ما يزن نحسب سعره. وهذا أسلوب قديم نتعامل به حتى الآن». وأضاف: «سابقا، كانت تأتينا المادة الأولية من بلجيكا أو بريطانيا أو فرنسا، أما اليوم فنعتمد على ما يستورد من الصين وإيران وغيرهما. وفي عملنا نستخدم أدوات يدوية بدائية متخصصة أبرزها المطارق والسنادين (جمع سندان) الطويلة والمربعة والأزاميل المنتهية بقطعة ملتوية للأسفل. وهناك مراحل كثيرة لتصنيع الأدوات النحاسية.. إذ يأتي النحاس على شكل ألواح مدورة أو مربعة، فنتولى قصها وتفصيلها و(تلحيمها) وتشكيل الوعاء المطلوب منها».

وفي السوق أيضا، رغم تخليه شخصيا عن الحرفة، أحمد نوري «أبو فادي»، الذي ما زال يستثمر دكانه وورشته في تصنيع النحاس من خلال الاستعانة بحرفيين شباب. وتحدث «أبو فادي» لـ«الشرق الأوسط» فقال: «ورثت المهنة والمحل عن والدي وعملت بها لفترة، وتركتها بعد ثلاثين سنة من وجودي فيها. لن أورثها لأولادي، فالعمل فيها متعب ولأنها مهنة منقرضة ما عاد لها مستقبل أو زبائن.. خصوصا مع وجود منافسات حديثة كثيرة للنحاس في الأسواق». وأضاف: «تصور، أذكر في بداية عملي في السوق، منذ ربع قرن، كنا نبيع يوميا نحو 10 قطع نحاسية.. بينما هذه الأيام لا نبيع في الأسبوع كله سوى قطعة نحاسية واحدة.. خصوصا من القطع الكبيرة».

في المقابل، لا تخلو سوق النحاسين من حرفيين يعملون بتفاؤل وتحد، مثل سليمان مارديني، الذي يعمل في السوق منذ ثلاثين سنة، وهو - كما يقول - تخصص في تصنيع مواد مطلوبة مثل مستلزمات محضري الفول والتسقية والحمص في مطاعم دمشق، ومستلزمات الباعة الجوالين الذين يبيعون عرانيس الذرة المسلوقة. فهؤلاء هم زبائنه و«أعدادهم في تزايد مستمر - كما يقول مارديني - مع استمرار فتح مزيد مطاعم جديدة في دمشق».