مصر: أهالي وادي كركر بأسوان يرفضون البيوت الإسمنتية

بعدما اعتادوا العيش في بيوت طينية

بيوت إسمنتية في قرى وادي كركر
TT

دروب العودة لم تكن ممهدة.. لكن هذا لم يكن السبب وراء الغضب الذي انتاب أبناء النوبة القديمة، وقد بدت في الأفق قرى وادي كركر، بأقصى جنوب الوادي قرب بحيرة ناصر، التي شيدتها الحكومة المصرية لتعويضهم عن قرى أجدادهم التي غرقت في قاع النيل مع بناء السد العالي في منتصف القرن الماضي.

قبل أن يغادروا المدن التي هُجّروا إليها كان السؤال المطروح عندهم عن الواقع الجديد الذي ينتظرهم. وفكّر أهالي وادي كركر في مستقبلهم على خلفية ماضٍ رسّخته ذاكرة الترحال والهجرات التي تعود إلى بدايات القرن الماضي. وحقّا، جاء الواقع الجديد مخيبا لآمالهم، فالبيوت التي كانوا ينتظرونها في قراهم القديمة الجديدة بنيت بالإسمنت والطوب.

هم يقولون: «وعدتنا الحكومة ببيوت نوبية»، ويردّ المسؤولون من جهتهم قائلين: «بنينا هذه القرى تماما وفق الطراز النوبي». وهكذا، ما بدا للمسؤولين مجرد طراز هندسي، كان لأهل هذه القرى ثقافة ومعمارا، وفي المسافة بين مفهومين ولد سوء التفاهم.

وزارة الإسكان المصرية كانت قد أعدت خطة لبناء 5221 منزلا على الطراز النوبي في سبع قرى على ضفاف بحيرة ناصر، هي: وادي كركر وعمدا والسبوع وخور قندي وقسطل وأدندان والسيالة وجرف حسين، وخصّصت مساحة 200 متر للبيت الواحد كتعويض عن هجرات المجتمع النوبي التي بدأت عند إطلاق المشروع القومي لبناء السد العالي بجنوب مصر عام 1902، مرورا بالتعلية الأولى في عام 1912، والثانية في عام 1933، وانتهاء بتهجير عام 1963 إلى وادي كوم امبو، حين جرى تهجير 17696 أسرة نوبية إلى مركز نصر النوبة.

وكانت أولى قرى التوطين التي طبّق المشروع فيها قرية وادي كركر، الواقعة مكان قريتي دهميت ودابود القديمتين قبل غرقها بعد بناء السد العالي، وهي تبعد عن مدينة أسوان بمسافة 25 كيلومترا، وعن شواطئ بحيرة ناصر 4 كيلومترات.

ولكن رغم إعلان الحكومة أن البيوت الجديدة ستكون على الطراز النوبي، فإنها لم تتمكن من بنائها بنفس شكل البيوت النوبية القديمة، إذ استخدم الطوب (الآجر) الأحمر والإسمنت. وهذا ما يتنافى تماما مع مواد بناء البيوت النوبية القديمة التي كان النوبي يعتمد في بناء جدرانها على الحجر النوبي والطين ويسقفها إما بحزم البوص (الغاب) وإما الخامة نفسها التي بنيت بها جدران البيوت وهي الطين، ولكن على هيئة قباب، وكان المواطن النوبي يقسم بيته إلى غرف نوم، ومخزن، ومطبخ، ومكان للتمائم والطلاسم، ومرحاض، وتتدلى من القباب سلال مصنوعة من سعف النخيل.

كذلك كان البيت النوبي يستمد تهويته وإضاءته من فناء داخلي تنفتح عليه نوافذ البيت من الداخل، كنوع من وقاية أهل البيت من الأتربة والتيارات الهوائية، وفضلا عن ذلك كان الفناء يؤمّن خصوصية البيت وحرمته. وهاتان الوظيفتان غفلت عنهما تصاميم البيوت الحديثة.

حجاج أدول، الأديب والناشط النوبي، علّق على هذا الموضوع واصفا الأبنية المشيدة الآن في وادي كركر بأنها «أبنية عشوائية»، وأضاف: «هذا هو التهجير الخامس إلى البيوت الإسمنتية»، ثم تابع: «إن مصير بيوت كركر الإسمنتية معروف مسبقا بسبب تصميمها بنفس الطريقة التي صممت بها بيوت كوم امبو عند التهجير الرابع، وقد وصفت حينذاك بأنها مجرد مكعبات إسمنتية، علاوة على أنها أفران في الصيف وثلاجات في الشتاء».

وأكد أدول أن جميع النوبيين يرفضون الذهاب إلى كركر، وأوضح أن النوبي اعتاد على أن تكون أرضه الزراعية بجوار بيته، لكن البيوت التي شيدت في كركر تبعد 20 كيلومترا عن الأراضي الزراعية التي حدّدتها الحكومة في وادي الأمل، وأضاف: «إن البيت النوبي قديما كان عبارة عن متحف لأن النوبي بطبيعته فنان، وكانت البيوت مبنية بالطين وعالية الجدران ومغطاة إما بالقباب وإما بجذوع النخيل، وكان كل بيت يضم حوشا ويطل على بحيرة ناصر مباشرة». وخلص أدول إلى مطالبة جميع علماء مصر بالاجتماع لوضع تصور لإنشاء وادٍ نوبي حول البحيرة تتوافر فيه مواصفات النوبة القديمة.

من جهة أخرى، أشارت منال الطيبي، الناشطة النوبية ومديرة مركز الحق في السكن، إلى أن «البيوت الإسمنتية التي بنيت مسطحة.. وهو ما يتنافى مع وعد المسؤولين بأن تكون بيوت كركر نماذج من البيت النوبي القديم». وذكرت أن «مساحات البيوت الجديدة صغيرة ولا تقارن بمساحة البيت النوبي قديما التي كانت تقدر بنحو 500 متر مربع، فضلا عن أن النوبي لا يستطيع في البيوت الجديدة تربية مواشيه، لأنها مصممة بلا مكان مخصص للحظائر.. والنوبي لا يقدر على العيش من دون مواشيه».

وكشفت منال أن الاتجاه العام لسكان الـ44 قرية التي جرى تهجيرهم من النوبة القديمة هو رفض السكن في بيوت كركر، وأن أهالي ثلاث قرى فقط هي الامبركاب ودهميت ودابود وافقوا على السكن خوفا من ضياع الفرصة في الحصول على بيت وأرض.

وفي السياق ذاته قال الباحث النوبي جمال السيد عبد الحميد: «إن السكن في البيوت الإسمنتية مرفوض تماما»، وكشف أن بيوت كركر «بنيت على سطح الأرض من دون أساسات، وعليه فسقوطها أمر وارد، كما أن المنطقة المشيدة عليها هذه البيوت صخرية وغير قابلة للزراعة». وأوضح أن النوبي معتاد على البيوت التي تبنى من مادة الطفلة - أي الطين - وهي تعتبر عازلة للحرارة في الصيف وخافضة للبرودة في الشتاء، وهذا فضلا عن أن البيوت الجديدة في كركر لا تحتوي على أحواش. وذكر أن الرئيس الراحل أنور السادات كان قد عرض على النوبيين بناء بيوت من الطوب الأحمر والمسلح في قسطل وأدندان.. لكن النوبيين رفضوا لأن النوبي لا يجيد التعامل مع الإسمنت.