«رجل الأمانة».. بوسني يعيد مليوني يورو إلى أصحابها

يعيش في فيلا أهداها له الرئيس الكرواتي الأسبق بفضل أمانته النادرة

الحاج رجب حمزيتش («الشرق الأوسط»)
TT

يعيش الحاج رجب حمزيتش حاليا في إحدى ضواحي سراييفو بمفرده، في فيلا أهداها له الرئيس الكرواتي الأسبق، ستيبان ميسيتش، ومؤسسة «أدرا» الخيرية، كهدية جزاء أمانته النادرة، فلا يمر بمكان، ولا ينزل بمنطقة إلا ويشار إليه بالبنان «هذا حاجي ريجو (رجب) الذي وجد نحو مليوني يورو، وأعادها إلى صاحبها». لقد أصبح مشهورا جدا حتى في الدول المجاورة، فيفسح له عند الحدود، ويرحب به في النوادي، ويتقرب به لدى أصحاب الجاه والنفوذ. وكان قد رفض قبول الفيلا التي أهديت له، بحجة أن هناك من هو أحق بها منه، ولكن تحت إلحاح الرئيس الكرواتي الأسبق وعدد من المسؤولين والشخصيات الاعتبارية الذين أقنعوه بأنه ليس من اللياقة عدم قبول هدية من رئيس يكن الاحترام والتقدير للمسلمين، ويدافع عن البوسنة في المحافل الدولية، وقد قبل بذلك بشرط عدم الزيادة، وأن يكون ذلك أول وآخر هدية يتلقاها فهو لم يقم إلا بما هو واجب القيام به قائلا: «تعلمت من القرآن أن أؤدي الأمانات إلى أهلها».

«الشرق الأوسط» التقت رجب حمزيتش، 50 عاما، في نادي الشباب المسلم، في سراييفو الذي يتردد عليه مع صديقه أستاذ الرياضيات البروفيسور، جمال الدين بربوتوفيتش، للتعرف عليه عن كثب. وقال حمزيتش: «كما أقول دائما لم أفعل سوى ما يجب علي فعله، فأنا رجل مسلم يأمرني القرآن الكريم بأن أؤدي الأمانات إلى أهلها، وما ألاقيه من حفاوة واحتفال يشعرني بالأسف».

وعن قصة عثوره على مبلغ يقدر بنحو مليوني يورو، وكيف أعاد المبلغ إلى صاحبه، وكيف تكرر معه ذلك عدة مرات قال «كان ذلك في مايو (أيار) عام 2001 حيث عثرت على المبلغ، وكان ملفوفا في كيس من البلاستيك، ولم تكن به أي أوراق ثبوتية، حيث باع صاحبه أرضه وداره ومحلاته لمعالجة ابنه المريض باللوكيمياء، وعرفت ذلك فيما بعد، فقد ذهبت إلى محطة التلفزيون في جوار جدة، ورجوتهم أن أعلن عن الأموال التي عثرت عليها، وعندما طلبوا مني ذكر قيمة المبلغ رفضت ذلك، وقد سلمت المبلغ لصاحبه وكان نحو مليوني يورو، أو 3.960.000 مليون مارك بوسني. بقي القول أن صاحب المبلغ كان صربيا، وعندما عرض علي 10 في المائة من المبلغ رفضت بشدة».

لم تكن تلك المرة الأخيرة التي يعثر فيها الحاج رجب على مبلغ مالي كبير، مما جعل بعض ضعاف النفوس يحسدونه، ويتمنون لو كانوا مكانه ولو مرة واحدة، فقد عثر «في سراييفو على مبلغ 45 ألف يورو، حصل عليه صاحبه من البنك لشراء بيت له ولزوجته وأطفاله، وعثر مرة أخرى على مبلغ 26 ألف يورو كان صاحبه يريد إيداعه في البنك بعد أن باع شقته لعلاج أمه في ألمانيا» وأعاد كل تلك الأموال التي تسيل لعاب الكثيرين إلى أصحابها.

وقد انقسم الناس حيال تصرفات الحاج رجب، فبعضهم اعتبره «مجنونا» والبعض أكبر فيه الروح التي يتمتع بها، وإيمانه الصادق الذي حسبه البعض، مجرد مثاليات غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع، وبعضهم مدحه على المنابر داخل المساجد مذكرا بأن «الأمة لا تزال بخير طالما فيها مثل الحاج رجب». كما فتحت قضية الحاج رجب محاور قيم الأمانة في الفقه والمجتمع، ومفاهيمها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمهنية، وما يتعلق بالجودة، والحفاظ على النفس، والأسرة، والمحيط والبيئة، وممتلكات الآخرين، وعلاقة الأمانة بالعمران، والحضارة عموما، حيث ربط الرسول صلى الله عليه وسلم، بين ضياع الأمانة وقيام الساعة. أما رجب حمزيتش، فهو يسير اليوم في الشارع بين الناس مرفوع الرأس بتواضع، والهمس لا يكاد ينقطع بين من يرونه، «حاجي ريجو، حاجي ريجو». وبالنسبة للحاج رجب فإن «احترام الناس، لا تضاهيه كنوز الدنيا كلها».

هذه الشخصية الفذة بكل المقاييس، والتي أثبتت أن القيم حقيقة وليست أكاذيب ونفاقا وتدليسا، دفعت «الشرق الأوسط» إلى العودة إلى الجذور، وإلى الأحداث التي شهدها الحاج رجب «أنا من منطقة ريفية تدعى صلاشا تقع بين فوتشا وتشانيتش في شرق البوسنة، اضطررت أثناء العدوان على البوسنة للنزوح إلى جوراجدة سنة 1992، وفي الحرب فقدت زوجتي وشقيقي، أما ابنتاي فقد تزوجتا، ولذلك أعيش اليوم بمفردي في سراييفو». وعن البيئة التي تربى فيها، قال: «والدي ووالدتي كانا متدينين جدا، وعلى الأمانة والقناعة ربياني، فوالدي كان يقول لي باستمرار لا تنظر لما عند الآخرين، ولكن انظر لما ليس عندهم، ومن فقد الإيمان فقد إكسير الحياة، ولو ملك الدنيا بأسرها.. ومما أذكره أيضا قوله: ساعد الناس دون انتظار شكر من أحد، فمن أكل طعام غيره فهو الجائع ومن لبس ثياب غيره دون طيب خاطر ورضا فهو العاري وإن لبس الذهب والزبرجد».

والحاج رجب ليس من حملة الشهادات، ولكنه من خريجي المساجد، وكان إيمانه دافعا له لإفلاح الأرض التي يملكها والده الراحل، ومما تنتجه من فواكه وخضراوات وبقول كان يوفر لقمة عيشه على مدار العام، «منذ كان عمري 16 عاما، تعلقت بالأرض وزراعتها، ولدينا 120 دونما مزروعة بأشجار التفاح والكمثرى والمشمس، كما نزرع البطاطس والبصل والفلفل والطماطم وغير ذلك».

ولأن الأرض في حاجة لآلات زراعية ضاعت جميعها أثناء الحرب، فإن الحاج رجب يبحث عن شريك يتقاسم معه إفلاح الأرض برأس المال وعليه الأرض والعمل والإنتاج، «أحتاج لشريك يوفر آلات الزراعية لإعادة إفلاح الأرض فهناك في شرق البوسنة آلاف الهكتارات التي أصبحت بورا أو تكاد بسبب الحرب وتهجير أهلها منها». ويذكر الحاج رجب تلك الأيام الجميلة التي كان أصحاب المزارع المجاورة يتعاونون فيما بينهم، فيساعد الواحد منهم الآخرين في إفلاح أرضهم ويساعدونه. كما يتذكر أهوال الحرب في جوراجدة عندما كان الناس يموتون من الجوع، ويعشش في مفاصلهم الخوف، وينزفون حتى آخر قطرة دم دون أن يكون هناك أدوية أو مداو سوى رحمة الله لمن يقضون شهداء. كما تحدث عن تهجير نحو 100 ألف مسلم من المناطق المجاورة تجمعوا كلهم في جوراجدة مما جعل الكارثة مضاعفة. ويأمل الحاج رجب في توفر الاستثمارات المأمولة من العالم الإسلامي في قطاعات الطاقة والسياحة والزراعة والصناعة في ترميم ما أصاب البنية التحتية والثقافية والاقتصادية والنفسية من تشوه كبير على مدى العقود المظلمة منذ 1878 وحتى اليوم.