فنان يصنع التماثيل من بقايا الحروب بين مصر وإسرائيل

جمع آلاف الشظايا للتعبير عن النشوة بالنصر

تمثال «النصر».. أحد أعمال الفنان جلال عبده هاشم («الشرق الأوسط»)
TT

«الصمود» و«النصر» تمثالان ينتصبان أمام زوار مدينة الإسماعيلية المصرية، الواقعة على مسافة 140 كلم شرق القاهرة، ويقفان في أشهر ميادينها مسجلين فترة مهمة من تاريخ مصر امتدت 6 سنوات بين «نكسة» عام 1967 و«انتصار» أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973. وحتما سيتوقف الناظر إليهما طويلا لتميزهما بأنهما صنعا من مخلفات الحربين من حطام الطائرات وبقايا الصواريخ والشظايا.

التمثالان يحملان بصمات الفنان جلال عبده هاشم، أحد قيادات المقاومة الشعبية في الإسماعيلية إبان «حرب الاستنزاف»، وهو يروي لـ«الشرق الأوسط» قصة صنعه التمثالين قائلا «في الأيام الأولى من غارات الطيران الإسرائيلي على مدينة الإسماعيلية عقب هزيمة يونيو (حزيران) 1967 هالتني مشاهد القتل والدمار التي خلفتها الغارات على المدنيين، فخطرت لي فكرة استغلال مهارتي اليدوية وموهبتي الفنية في صنع تمثال من مخلفات الغارات والشظايا التي ملأت شوارع المدينة لأدعو من خلاله إلى الصمود وأشحذ الهمم التي أصيبت بخيبة عقب هزيمة الجيش المصري واحتلال سيناء. وجمعت من بين رفات الضحايا ومن المنازل المهدمة بالشوارع آلاف الشظايا مختلفة الأحجام إلى جانب بقايا الصواريخ والقنابل والدانات».

ويضيف جلال، الموظف السابق بهيئة قناة السويس «تحت انهمار القذائف وضجيج الطائرات الإسرائيلية ووسط ظروف الحرب القاسية؛ أصررت على صنع التمثال مستعينا بجار لي متخصص في التلحيم الكهربائي، وأنجزناه من 4500 شظية مختلفة الأشكال والأحجام، وتحت وطأة انقطاع الكهرباء بسبب ظروف الحرب استغرق إتمام التمثال نحو شهرين تقريبا، ليجسد في النهاية جسد مقاتل مدني يرفع بيده اليمنى بندقيته ويحمل في اليد الأخرى دانة، ويصل طوله لنحو متر ونصف المتر، ووزنه نحو 312 كلغم تقريبا».

وبعدما فرغ جلال من تمثال «الصمود» وضع التمثال أمام معرض الأثاث الذي يمتلكه في حي المحطة الجديدة بالإسماعيلية، فحاز إعجاب الأهالي الذين استبقوا بعد صدور قرار جمهوري بإجلاء الأهالي عن الإسماعيلية، وهنا يقول «كان غرضي من عرض التمثال أن يراه أكبر عدد من المصريين ليكون محفزا لهم، لذا نقلت التمثال على نفقتي الخاصة إلى مقر نقابة الصحافيين بالقاهرة، حيث حاز إعجاب الجميع. ثم نُقل للعرض داخل معرض القاهرة الدولي للكتاب لمدة ثلاثة أسابيع، وعرض لفترة من الوقت بميدان روكسي أحد الميادين الشهيرة في القاهرة، كما عُرض في أماكن التجمعات الطلابية مثل كلية الآداب بجامعة القاهرة وعدد من الجامعات المصرية خاصة ممن انتشر فيها الطلاب المهجرون من مدن القناة لكي يكون باعثا لروح الصمود أمام مرارة النكسة».

ثم مع انتصار الجيش المصري في أكتوبر عام 1973، استيقظت بداخل جلال الرغبة في صنع تمثال يجسد «النصر»، بعدما أدى تمثال «الصمود» دوره وحقق هدف صانعه منه، لكنه هذه المرة قرر أن تكون مكونات التمثال من شظايا الأسلحة المصرية التي جلبت النصر. ويشرح «عندما جاءتني فكرة إعداد تمثال جديد يجسد النصر، تصادف أن مر علي أحد الجنود وكان في طريقه إلى الجبهة لمواصلة القتال مع زملائه. وأمام روحه المعنوية المرتفعة طلبت منه أن يأتي لي بشظايا من القنابل المصرية التي دكت حصون العدو على «خط بارليف» الذي أقامته إسرائيل. وبالفعل، بعد بضعة أيام جاءني الجندي حاملا جوالا مملوءا ببقايا الشظايا المصرية، وتوالت زيارات هذا الجندي لي وامتلأ المخزن عندي بالشظايا وباشرت عملي في صنع التمثال».

ويتابع بحماس «كنت قد جمعت أجزاء من حطام طائرة فانتوم إسرائيلية كانت أسقطتها المدفعية المصرية، لأجعل منها قاعدة يقف عليها تمثال المقاتل الذي يقف رافعا يديه الاثنتين إلى علٍ، مشيرا بيده اليمنى بعلامة النصر وفي يده اليسرى يحمل سلاحه.. وهو يقف على حطام الطائرة المرسوم عليها نجمة إسرائيل. وبدأت العمل فيه في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1973 وانتهيت منه في يناير (كانون الثاني) عام 1974، ويبلغ وزنه نحو 290 كلغم، وبعد إنجازه عرض في عدد من المحافل والتجمعات داخل مصر».

حتى سنوات قريبة لم يكن للتمثالين مكان في الإسماعيلية سوى أمام معرض الأثاث الذي يملكه صانعهما، حتى أصدر اللواء عبد السلام المحجوب، محافظ الإسماعيلية الأسبق، قرارا عام 1995 بوضع تمثال «الصمود» في قلب ميدان الشهيد عبد المنعم رياض بالقرب من قناة السويس، حيث يرتكز على قاعدة رخامية يتعدى طولها نحو ثلاثة أمتار فوق سطح الأرض، في حين نصب تمثال «النصر» في ميدان الإسكان.

ولا ينسى الفنان جلال تلقيه من الرئيس المصري السابق الراحل محمد أنور السادات «درع النصر» في أول احتفال بأعياد «نصر 6 أكتوبر»، ولا شهادات التقدير التي منحها له محافظو الإسماعيلية، وكذلك تكريم سفارة فيتنام له على تمثال «الصمود». أما التكريم الأبرز الذي يعتز به فهو التكريم الذي أعده له محمود أمين عمر، محافظ الإسماعيلية في زمن الحرب، حين منحه مكافأة خمسة جنيهات رغم التقشف في المصاريف الحكومية لأجل المجهود الحربي. ويتذكر جيدا قول المحافظ له يومذاك «أنا كسرت القانون ومنحتك هذا المبلغ لعملك الضخم»، قاصدا بذلك تمثال «الصمود»، ومع أن المبلغ كان يعد كبيرا بمقاييس ذلك الوقت.. فإن جلال لم يصرفه أبدا، بل أبقاه تذكارا لا يزال يحتفظ به حتى اليوم. ورغم تعدد مناسبات التكريم وحالة الزهو التي تطغى عليه عندما يمر أمام التمثالين، لا تزال تراود الفنان جلال، الذي يقارب اليوم السبعين من عمره، أمنية غالية هي أن يعرض التمثالين في قلب إسرائيل حتى يكونا شاهدين على «جرائم الإسرائيليين بحق الإنسانية».