قصر الحير الشرقي.. بناه هشام بن عبد الملك وما زال يحتفظ بالكثير من عمارته

يتوسط البادية السورية ويربض كغزال ضخم

منقبون يعملون على كشف خبايا قصر الحير الشرقي التاريخي وفي الإطار من المكتشفات الأثرية في القصر («الشرق الأوسط»)
TT

في منطقة تتوسط البادية السورية، على مسافة نحو 115 كيلومترا شرقي عاصمة البادية وعروسها مدينة تدمر، تقع منشأة تاريخية ضخمة يدل موقعها ومكانتها وثراؤها المعماري على أنها قصر مهم.

إنها قصر الحير الشرقي، الذي بناه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك المعروف عنه شغفه ببناء القصور في البادية وعلى ضفاف نهر الفرات، ومنها قصور الرصافة و«شقيق» الحير الشرقي، قصر الحير الغربي، الذي لم يبق منه سوى واجهته، وقد عملت إدارة الآثار السورية على ترميمها ونقلها إلى متحف دمشق الوطني لتزين بها واجهة المتحف المطلة على حديقة الزوار.

بخلاف «شقيقه» ظل قصر الحير الشرقي في مكانه رابضا وسط رمال البادية كغزال رشيق وضخم، في آن، يؤمه السياح والزوار يوميا، وتعمل فيه منذ ثماني سنوات بعثة أثرية سويسرية - سورية مشتركة تمكنت من تحقيق إنجازات متنوعة في مجال الكشف واللقى الأثرية. عن هذا الموضوع تحدث لـ«الشرق الأوسط» المهندس وليد الأسعد، مدير آثار ومتاحف مدينة تدمر، فقال «تقوم البعثة المشتركة السورية - السويسرية منذ عام 2002 وحتى تاريخه بأعمال التنقيب والدراسات في الموقع، وهذا بعدما نجحت في تحديد المعطيات والدلائل الأثرية التي تدل على قيام تجمع سكني معاصر لفترة بناء وسكن قصر الحير الشرقي، خلال الفترة الأموية، كمحطة تجارية وموقع إداري وصناعي وزراعي واسع. ويقع هذا التجمع إلى الشمال من القصر الكبير، وهو يدل على نشاط اجتماعي واسع تمثل في الكشف عن عدد كبير من الغرف المتنوعة الأبعاد، التي يضم بعضها وسائل الخدمة الأساسية كمواقد للنار وتنور وحمام غسيل ودورات مياه ذات أقنية تصريف تؤدي إلى آبار محفورة لهذه الغاية.. إلخ، كما كشفت عن تتابع السكن والنشاط خلال الفترة العباسية المبكرة».

وتابع الأسعد مفصلا «تركزت نشاطات البعثة على المحاور التالية:

أولا.. تُظهر المقاطع والأسبار المدروسة والمنفذة شمال القصر الكبير وجود أساسات لمبان ومساكن واسعة شيدت خلال فترة الإنشاء الأولى (728 - 729م) للموقع، ولقد عثر فيها على مجموعة كبيرة من الكسر الفخارية، منها أجزاء من كؤوس وصحون وقوارير تعود لفترة العصر الأموي المتأخر وبداية العصر العباسي، والعظام.. ومنها عظام تعود لحيوانات مختلفة. أما العظام البشرية فهي هياكل عظمية لرجال ونساء مختلفة أعمارهم، بالإضافة لطفل صغير، ومعظمها قد يعود للفترة الأيوبية المملوكية، وجار الآن العمل على تحليلها بشكل علمي في المختبرات لتأريخها بشكل دقيق. ثم هناك بعض الكسر الزجاجية وبعض اللقى المعدنية المتأكسدة، وجرار وأنابيب الفخار المهشمة، ومجموعة كبيرة من قطع الزخارف الجصية المصبوبة بالقالب (stucco) والمزخرفة بزخارف نباتية وهندسية وبشرية.. وهذه المرة الأولى التي تظهر فيها لوحات جصية تحمل رسوما وتصاوير بشرية في موقع قصر الحير الشرقي وهي على الغالب تعود للفترة الإسلامية المبكرة التي كانت لا تزال متأثرة بالفنون المحلية المأخوذة عن الفترات الكلاسيكية السابقة في المنطقة. واعتمادا على دراسة هذه اللقى يمكن القول إن هذه المباني استخدمت حتى الثلث الأول من القرن التاسع للميلاد.. كما تلاحظ في بعض هذه المساكن دلالات على مرحلة استيطان ثانية.

ثانيا.. أظهرت مياه السيل في المنطقة المسماة (الطاحونة) والواقعة عند مخرج وادي السوق (1.5 كم شمال القصر) وجود معالم وأساسات لمنشأة ذات شكل مربع تقريبا مقامة فوق القناة التي تجر المياه إلى القصر، وقد استخدمت هذه المنشأة على الغالب لطحن الحبوب اعتمادا على طاقة المياه المارة عبر القناة المذكورة، وتقع على عمق 150 سم تحت منسوب الأرض الطبيعية. وهي مبينة من الحجر المنحوت، وذات سقف حجري جملوني الشكل، مربوطة بقفل حجري مستطيل، وكذلك عبر مياه السيل والأمطار التي تحجزها منشآت بسيطة على شكل جدار حجري له فتحات تفريغ يجري التحكم بفتحها وإغلاقها عند الحاجة.

ثالثا.. أجرت البعثة أعمال الدراسة والتحليل الهندسي والمعماري لمباني القصرين اعتمادا على الأجهزة المساحية المتطورة والتصوير الفوتوغرامتري، وذلك في سبيل التعرف على فترات الإنشاء وتطورها ومواد البناء المستخدمة وأساليب البناء لفهم مراحل التطور العمراني التي مر بها الموقع واستخداماته، وإعادة توظيف أجزاء منه حسب العصر وتوثيق هذه التطورات والترميمات الأخيرة. وقد أظهرت التحاليل المعمارية أن جدران القصرين لم تتعرض للتخريب بفعل الزلازل، وأنه قد أُعيد بناء أقسام منها خلال القرن الثامن للميلاد، ولكن أمكن ملاحظة مرحلتين متمايزتين للبناء اعتمادا على إتباع أسلوبين مختلفين في التنفيذ ومواد البناء». الجدير بالذكر، أن اسم قصر الحير مشتق من كلمة «حيرتا» الآرامية التي تعني «المعسكر»، وهو واحد من أهم المنشآت الأموية في البادية الشامية. فقد بناه هشام بن عبد الملك عام (110هـ - 727م)، والدليل على ذلك كتابة عثر عليها على إحدى عضائد الجامع في القصر الكبير نصها «بسم الله الرحمن الرحيم.. أمر ببناء هذه المدينة عبد الله هشام أمير المؤمنين.. سنة 110هـ». ويضم الموقع من الأوابد القصرين الكبير والصغير، والحمام، والبستان، والقناة، والجامع بين القصرين.

القصر الصغير المربع الشكل أبعاده (70×70م)، وجدرانه مشيدة بالحجارة الكلسية الطرية مدعمة بأبراج نصف دائرية، له شكل البيت إذ تتوسطه باحة سماوية محاطة بالأروقة.. وكان مخصصا لإقامة الخليفة وحاشيته الخاصة. أما القصر الكبير فيقع إلى الغرب من القصر الصغير، وهو أيضا مربع الشكل طول ضلعه (170م)، ومشيد بحجارة كلسية طرية منحوتة، له أربعة أبواب في وسط جدرانه وتتوسطه باحة سماوية محاطة بالأروقة، ويضم خزانا للمياه ومعاصر الزيتون وحماما ودار الإمارة، وفي زاويته الجنوبية الشرقية يقوم الجامع الذي هو نسخة مصغرة من الجامع الأموي بدمشق. وبين القصرين منارة وأطلال جامع من العصر المملوكي المتأخر استخدمت في بنائه عناصر معمارية منقولة من أنقاض القصرين وله منارة مربعة. وأما الحمام فشيد في الزاوية الشمالية بين القصرين، ويمكن القول إنه ثاني حمام من العهد الأموي لا يزال قائما بتفاصيله المعمارية في بلاد الشام. وحسب الأسعد، ازدهر قصر الحير الشرقي والموقع ابتداء من العصر الأموي، مرورا بالعصر العباسي، حتى ما بين القرنين الـ11 والـ14 الميلاديين، وبقي محطة على الطريق بين حلب والبصرة حتى افتتاح قناة السويس. وقد نقبت فيه وكشفت عن عدد معالمه بعثة أميركية - سورية بين عامي 1964 و1972، قبل أن تتولى العمل فيه البعثة السويسرية - السورية منذ عام 2002 وحتى اليوم.