غزة تعود إلى الأفران الشعبية من جديد

مع استمرار أزمة الكهرباء وارتفاع أسعار غاز الطهو

فرن شعبي في غزة («الشرق الأوسط»)
TT

من على شرفة منزلها في مدينة غزة، بالقطاع الفلسطيني المحاصر، ترقب «أم ياسر» السوسي عودة أولادها الذين قصدوا أحد الأفران الشعبية في الجوار لخبز العجين الذي أعدته في بيتها.

هذه السيدة، مثلها مثل كثيرات من ربات البيوت الغزّيات، باتت تعتمد على الفرن الشعبي الذي يدار على الحطب المشتعل في ظل انقطاع التيار الكهربائي المتواصل وارتفاع أسعار غاز الطهي. أما محمد فروانة، صاحب المخبز الشعبي في الحي الذي تقطنه «أم ياسر»، فلا ينفكّ عن تجفيف العرق الذي يتصبّب من وجهه بسبب سخونة المكان، حيث يكابد التأثير المشترك لنار الفرن وارتفاع حرارة الجو في هذا الصيف القائظ.

تعمل النسوة في القطاع على إعداد العجين ومن ثم إرساله إلى الفرن الشعبي لخبزه وإعداده، مقابل أجر. وتقول «أم ياسر» في حوار مع «الشرق الأوسط»: «قبل عشرات السنين كنا نعجن الخبز ونرسله إلى الفران كي يخبزه، إلا أن الأمور تطورت بعد ذلك.. بفضل الارتباط بشبكات الكهرباء وانتشار الأفران الكهربائية التي جعلتنا نخبز في بيوتنا. ولكن، الآن، مع تدهور الأوضاع وانقطاع الكهرباء وقصف محطة الكهرباء قبل سنوات... أعاد «أبو محمد» فروانة فتح فرنه الخاص من جديد، وهذا ما دفعنا لإرسال الخبز إليه لأنه يوفّر علينا الوقت والجهد بشكل كبير».

ويعتقد كثيرون من سكان غزة أن خبز الخبز في الفرن الشعبي يعطيه طعما لذيذا، وتقول «أم ياسر» موضحة «الخبز الذي نرسله إلى الفران يكون ذا طعم لذيذ لأنه يخبز على الطينة. إننا نشعر فيه بطعم الخبز القديم الذي كنا نأكله عندما كنا صغارا». والواقع أن حالة الحصار التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ تولّي حركة حماس الأمر فيه أجبرت الغزّيين على العودة إلى عادات وتقاليد وممارسات حياتية تعود إلى عقود من الزمن سبقت تهجير الفلسطينيين عام 1948، ومنها اضطرارهم إلى العودة للفرن الشعبي العام للتغلب على أزمة الكهرباء وغلاء أسعار غاز الطهو.

في بعض مناطق القطاع يتسلّم بعض أصحاب الأفران الشعبية الدقيق - أو الطحين - من الزبائن وعجنه وخبزه مقابل مبلغ من المال. وفي الطرف الشمال الشرقي من مخيم المغازي للاجئين، بوسط القطاع، ينهمك يوسف أبو الخير في إحصاء أكياس الدقيق التي جلبها زبائنه، ومن ثم يعكف أولاده الـ13 وزوجتاه على إعداد العجين، بينما يتولّى هو عملية الخبز في الفرن. وبعد إكمال هذه العملية، يقوم أحد أولاده بإيصال الخبز لبيت كل زبون.

يوسف أبو الخير قال لـ«الشرق الأوسط» شارحا «سأكون مضطرا، عما قريب، إلى توسيع الفرن.. فضغط الزبائن كبير، ومع حلول رمضان فإن الإقبال شديد، لا سيما أننا هنا نقوم بطهو الطعام للزبائن أيضا». وذكر يوسف أنه يتقاضى مبلغ 30 شيقل (4 دولارات أميركية) لقاء كل كيس طحين يزن 30 كلغ يعجنه ويخبزه ويوصله إلى الزبائن.

وفي منطقة الصبرة، في وسط مدينة غزة، يصطف طابور من الأطفال وهم يحملون على رؤوسهم فروشا مليئة بأرغفة العجين غير المخبوزة، أمام فرن قديم يتوسط شارع الثلاثيني، بانتظار دور كل منهم لخبز هذا العجين عند الفران جمال نصر الله. في حين تجد أطفالا آخرين كانوا يحملون صينيات مليئة بالبطاطا الحلوة «الحمراء» لإنضاجها عند الفران نصر الله لأنها «ذات طعم لذيذ لا يقاوم» حسب وصف هؤلاء الأطفال. أما نصر الله - وهو خمسيني - فيقول «إنني أعمل في هذه المهنة منذ أكثر من 30 سنة، ولقد ورثت هذا الفرن المتواضع من والدي الذي كان مشهورا في قطاع غزة... إذ كان أغلب سكان قطاع غزة يخبزون عنده».

وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» قال محمد الأشقر، عضو مجلس إدارة جمعية التراث الشعبي الفلسطيني، إن «التراث الشعبي بدأ يعود إلى قطاع غزة بسبب الحصار الإسرائيلي خاصة أنه يعتمد على كل ما هو متوافر لدى أبناء المجتمع» وتابع مشيرا إلى أن عودة المواطنين الفلسطينيين إلى الأفران الشعبية تمثل عودة إلى تراث كان مألوفا ومنتشرا في الأراضي الفلسطينية قبل الاحتلال. وأعرب الأشقر عن اعتقاده «أن الفران الشعبي الذي يخبز للناس ما يعجنون وما يطبخون تراث شعبي لا يمكن أن يندثر»، في ظل تحوّله لعمل خبز بلدي أسمر يطلبه كثيرون من مرضى السكري لفائدته العظيمة لهم. وأشار إلى أن جمعيته قدمت دعما كبيرا لأصحاب الأفران الشعبية وأنشأت عددا من هذه الأفران في شمال قطاع غزة وجنوبه بهدف إنعاش التراث الشعبي الفلسطيني الذي يمكن الفلسطينيين من التعويض وكذلك التغاضي عن كثير من ويلات الحصار الإسرائيلي.