«البحصة».. من منطقة الخطاطين إلى سوق الكومبيوتر في دمشق

تغيرت كثيرا خلال السنوات الماضية لتتماشى مع متطلبات العصر

منطقة البحصة بدمشق وتحول مفصلي في تاريخها واستثمارها في السنوات العشرالأخيرة («الشرق الأوسط»)
TT

بكلمات العارف والواثق بمعلوماته، يقول شادي السقا، وهو طالب جامعي يدرس في كلية الهندسة بجامعة دمشق: «يا أخي تجار الشام شاطرين.. وبيلقوطها ع الطاير؟!».

مناسبة كلمات شادي المعبرة هذه زياراته المتكررة لمنطقة البحصة، التي تتوسط العاصمة السورية دمشق في مكان استراتيجي، حيث يأتي كل يوم تقريبا ليرى الجديد في مجال عالم الكومبيوتر. إذ تحولت معظم محلات البحصة، منذ انطلاق «ثورة المعلومات»، خلال العقدين الأخيرين، إلى مكان لتجارة الكومبيوترات ولوازمها وبرامجها.

والطريف هنا أن سائقي سيارات الأجرة (التاكسيات) ما إن يشاهدوا شخصا واقفا في أي حارة أو شارع في دمشق منتظرا وسيلة نقل وبيده معالج كومبيوتر.. يعرفون مباشرة أن وجهته البحصة لصيانة كومبيوتره و«فرمتة» معالجه الذي يحمله معه! شادي السقا يعني ما يقول، ويبرر قوله إن دمشق «منذ مئات السنين ومع انتشار الأسواق الكبيرة فيها، عمل تجارها المشهود لهم بالشطارة والاجتهاد على تخصيص كل سوق بتجارة معينة.. وهكذا ظهرت أسواق الحرير والعصرونية والبزورية والمسكية والبرغل والذهب. ولكن مع تطور العصر، وبصورة متسارعة، في النصف الأخير من القرن العشرين، وبدايات الألفية الثالثة.. كان لا بد للتجار الشوام أن يتأقلموا مع مفردات الحضارة الجديدة وانتهاز الفرص والمخترعات والمبتكرات الجديدة لتسويقها وبيعها، وعلى عادتهم القديمة بتخصيص سوق لكل منتج. وهكذا حولوا محلات البحصة إلى سوق للكومبيوترات وكل ما يتصل بها من قطع وبرامج وخدمات. ويبتسم شادي، بسعادة واضحة، لاقتناع من سمعه من الموجودين داخل أحد محلات بيع الكومبيوترات والأقراص المرصوصة (أو المدمجة) بتحليله المنطقي لتخصص محلة تجارية مهمة تتوسط دمشق بتجارة واحدة فقط! من جهته، عمار فضلون، من تجار البحصة، كان أحد من حولوا محلاتهم التجارية قبل عشر سنوات في البحصة إلى بيع الكومبيوترات ولوازمها. وفي حوار مع «الشرق الأوسط» قال شارحا: «البحصة منطقة قديمة تجاور مناطق وأحياء دمشقية عريقة ومحورية، مثل ساحة المرجة وسوق ساروجا، وبوابة الصالحية، وجسر فيكتوريا. وكانت أصلا محلة سكنية تحولت منازلها قبل نحو أربعين سنة إلى أبنية حديثة تضم طوابق متعددة، استثمرت كمكاتب مهندسين ومحامين وعيادات أطباء. وكانت متاجرها ودكاكينها تبيع المنتجات الاستهلاكية، مع حضور على نطاق واسع لقطاع بيع الألبسة، بينما استثمرت المتاجر الكبيرة فيها كمكاتب سياحة وسفر، وجذبت منطقة البحصة البرانية، تحديدا، صانعي اللافتات (الآرمات) الإعلانية والخطاطين والرسامين الذين فتحوا مكاتب وورشا لهم فيها. وبقيت المحلة مركزا للخطاطين والرسامين وصانعي اللافتات حتى قبل عشر سنوات مضت. ولكن منذ ذلك الحين، شهدت البحصة نقلة نوعية مفصلية في تاريخها.. إذ تحولت معظم محلاتها، بسرعة كبيرة إلى دكاكين متخصصة في عالم الكومبيوتر والإنترنت والهاتف الجوال، ولاقت إقبالا كبيرا من أصحاب رؤوس الأموال والشركات المتخصصة بالكومبيوترات لشراء المحلات فيها، واستثمارها في هذا المجال».

وتابع عمار: «اليوم ترى أنه حتى الساحة الداخلية للبحصة استثمرت جميع محلاتها الصغيرة والكبيرة في مجال الكومبيوتر، وتضاعفت أسعار هذه المحلات عدة مرات في السنوات العشر الأخيرة لكثرة الطلب عليها، بعدما كانت منطقة مهملة لأنها لا تطل على الشوارع الرئيسية.. ولم يكن أحد يفكر مطلقا في فتح متجر أو دكان صغير فيها. أما هذه الأيام فإن جميع الدمشقيين، وحتى سكان المدن السورية الأخرى، يعرفون تماما أن البحصة هي السوق المركزية الأولى للكومبيوتر في سورية، وبالتالي، غدت وجهة الراغبين في شراء كل ماله علاقة به وبلوازمه وبقطاعات المعلوماتية والاتصالات والألعاب الإلكترونية».

واستطرد عمار فضلون، موضحا «ترى هنا الزبائن من مختلف شرائح المجتمع السوري.. ولا سيما من طلبة الجامعات والمهندسين والمصممين والرسامين، كما ترى أيضا أناسا عاديين يرغبون في مشاهدة واجهات محلات الكومبيوتر والاطلاع على أنواعه وأشكاله وميزاته، وقد يدخلون للمحل من باب الفضول ليسألوا صاحبه عن كومبيوتر ما، ويطلبون منه استشارة (مجانية) في هذا المجال.. ثم يغادرون المكان من دون أن يشتروا». ثم أضاف مستدركا: «ومن زبائن السوق الصغار الراغبين بشراء ألعاب الأتاري المتنوعة، وأقراص الكومبيوتر المختلفة التي تضم ألعابا متنوعة ومسلية».

وعن الخدمات الملازمة لمبيعات الكومبيوتر، قال عمار: «إن أصحاب المحلات في البحصة يقدمون خدمات كثيرة - مأجورة طبعا - لمرتادي السوق، منها كفالات لسنة وحتى ثلاث سنوات لأجهزة الكومبيوتر ومكوناتها ولوازمها الرئيسية التي تباع في محلاتهم، وبعض المحلات والشركات تخصص حصرا بالبرامج وتطبيقاتها، ثم هناك خدمات الصيانة للكومبيوتر ولها محلاتها المتخصصة التي استثمرها أصحابها في صيانة الكومبيوترات بواسطة مهندسين وخبراء يعملون في هذا المجال»، وأشار إلى أن المستثمرين لم يكتفوا بتحويل الدكاكين الأرضية إلى محلات كومبيوترات، بل تمددوا نحو الطوابق المرتفعة، فحولوا المكاتب في الأبنية إلى مكاتب خاصة بخدمات الكومبيوتر والإنترنت.

ويقدر عمار فضلون عدد المحلات والدكاكين المتخصصة في قطاع الكومبيوتر ولوازمه وبرامجه وملحقاته في البحصة وحدها حاليا بأكثر من 200 محل، وهذا الرقم هو تقريبا إجمالي عدد محلاتها التجارية. كما أنه يقدر استثمار نحو 80 في المائة من أبنية المنطقة الطابقية كمكاتب كومبيوترات ومقاهي إنترنت ومقرات لشركات عاملة في هذا القطاع، بينما ظل الباقي من مبانيها على استثماره الأساسي، مثل الفنادق الكبيرة والصغيرة التي تضمها البحصة كفندق فينيسيا وغيره.

على صعيد آخر، في عودة إلى التاريخ والجغرافيا، قسم مؤرخو دمشق منطقة البحصة عمليا إلى محلتين، هما البحصة الجوانية (الداخلية)، والبحصة البرانية (الخارجية)، يفصل بينهما الشارع الرئيسي الواصل ما بين ساحة المرجة وساحة يوسف العظمة حاليا. والمنطقة، كما يقول المؤرخون، منطقة قديمة شيدت مبانيها على الطراز العمراني العثماني السائد في حقبة تأسيسها. ويذكر أحد المراجع حول دمشق في مطلع القرن العشرين أن البحصة كانت تضم مستودعات أدوات محمل الحج الذي كان يعرف بـ«الكيلار»، وكان يحمل إليه الزيت عادة في «ظروف» (أكياس) على ظهور الجمال حتى موعد خروج الحج. ومنذ عقد الأربعينات من القرن العشرين تحولت البحصة البرانية إلى سوق تخصصية للخطاطين والرسامين وصانعي الزنكوغراف أو كليشيهات الطباعة، ثم هدمت هذه المحلة في بداية الستينات إثر تنظيم المنطقة وفتح شارع يوسف العظمة الممتد من بوابة الصالحية حتى ساحة المرجة.