غزة: مأساة عائلية دفعت إلى البحر بأصغر صيادة في العالم

حكاية كفاح على سواحل جنوب فلسطين

الإخوة الثلاثة يعدون الشباك
TT

احتضنت «أم كايد» ابنتها مادلين (16 سنة)، وقامت بتجفيف العرق المتصبب من وجهها بمنديل بعد يوم آخر من الصيد في عرض البحر، بينما كان شقيقها كايد (15 سنة) يحمل حصاد ما صادته مادلين من سمك. لقد كان هناك سبب وجيه للشعور بالفرح الذي ساد أفراد العائلة.. إذ كان كل صيد مادلين من السمك في ذلك اليوم من سمك «الدنيس» الفاخر.

هذه التفاصيل التي بدت روتينية في حياة عائلة محمد كلاب، التي تقطن في مخيم الشاطئ بقطاع غزة، الواقع إلى الغرب من مدينة غزة ويجاور - كما يدل اسمه - شاطئ البحر، فإنها تبدو غريبة تماما بالنسبة للفلسطينيين في القطاع. إذ لم يحدث أن امتهنت فتاة، وتحديدا فتاة صغيرة السن في مثل هذا العمر مهنة الصيد البحري، ولا سيما، في ظل الظروف القاهرة أمنيا واقتصاديا التي يعيشها الصيادون في القطاع المحاصر والمكتظ بالسكان.

وتعود قصة مادلين كلاب مع البحر والصيد إلى ثلاث سنوات خلت، عندما كانت ترافق والدها، الصياد محمد كلاب، في رحلة الصيد اليومية إبان أيام العطلات المدرسية. وكانت الصغيرة مادلين تساعد والدها في رمي الشباك في عرض البحر، إلا أن والدها أصيب قبل سنة بشلل في رجله جراء تعرض أطرافه للبرودة، وبالتالي، غدت العائلة بين ليلة وضحاها من دون معيل، وهنا بادرت مادلين إلى الطلب من والدها الإذن لها بأن تتولى الأمر، وتواصل هي عمله في مهنة الصيد بمعاونة شقيقيها كايد وريم لمواجهة التبعات الاقتصادية والمعيشية لهذه المأساة العائلية.

لكن بخلاف والدها، الصياد المحترف وصاحب الخبرة الطويلة، فإن جل ما تسعى إليه مادلين وشقيقاها هو كسب القوت اليومي للعائلة في ظل الأوضاع المادية القاسية. وهي حاليا، ضمن إمكانياتها المحدودة تصطاد كميات قليلة نسبيا من السمك، والسبب الرئيسي أن الوالد الذي يصر على مرافقة أولاده إلى شاطئ البحر يشدد على ألا تتوغل مادلين أكثر من كيلومتر واحد في عمق البحر خشية تعرضها لمضايقات سلاح البحرية الإسرائيلية، الذي دأبت قطعه في الفترة الأخيرة على تعقب الصيادين وتهديدهم والتضييق عليهم، بل وصلت ممارساته لحد خطف صيادين إلى ميناء عسقلان الإسرائيلي ومساومتهم على التعامل مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية الداخلية «الشاباك».

وبناء عليه، فلا يتجاوز ما تصيده مادلين من السمك الطازج الكمية الكافية لإطعام أفراد العائلة. أما الفائض القليل من الصيد فيباع لتأمين ضروريات الحياة، وبالأخص العلاج والأدوية للوالد.

ومع هذا، فلا تبدو مادلين، في ظل المشقات الكبيرة التي تواجهها منذ امتهنت هذه المهنة، اضطرارا لا خيارا، منزعجة أو متبرمة. فهي تتعامل مع هذا الواقع الصعب كقضاء وقدر يجب التسليم به، كما أنها تؤمن، بقوة، بأن عليها أن تساعد عائلتها المحتاجة إلى نشاطها في هذه المرحلة العصيبة. وخلال حوار مع «الشرق الأوسط»، في لقاء بالقرب من منزل العائلة البسيط، المكون من ثلاث غرف صغيرة، قالت مادلين: «بعدما أصيب والدي بالشلل في قدميه وأصبح عاجزا عن الحركة، رفض أن نمد أيدينا للناس.. وأقنعني بالخروج إلى البحر للصيد، خاصة أنني كنت أخرج معه للصيد قبل أن يصاب بالمرض».

وتابعت الصيادة الفلسطينية الصغيرة كلامها، مشيرة إلى أنها تعلمت أصول الصيد من والدها قبل إصابته، إذ إنه كان يأخذها منذ صغرها في قاربه إلى البحر، كما أنه علمها السباحة والتجديف في القارب، وانتقاء أماكن الصيد إلى جانب فنيات إلقاء الشباك وشدها. وتتساءل مادلين ببراءة: «كيف يمكننا أن نعيش من دون صيد الأسماك؟ فأبي أصيب بشلل في القدمين، ولم يعد قادرا على العمل، وظروف الحياة قاسية... تفرض على فتاة مثلي العمل في الصيد، على الرغم من خطورته، لكنني في أي حال سعيدة بقدرتي على مساعدة أسرتي».

أما أكبر أمنية عند الصيادة الصغيرة فهي أن تتمكن ذات يوم من شراء قارب يعمل بمحرك لكي تتخلص هي وشقيقاها كايد وريم من عناء جر القارب، الذي يبلغ وزنه خمسين كيلوغراما.