حي الحسين في القاهرة.. حالة رمضانية بامتياز

ليله موصول بنهاره ويجوبه آلاف البشر من الفطور حتى السحور

أمواج من البشر تستمتع بطعم خاص لرمضان في حي الحسين بالقاهرة («الشرق الأوسط»)
TT

فوانيس وأنوار وأناشيد دينية تختلط بروائح العطور والبخور، وبضجيج زحام بشري هائل من مختلف الأجناس حيث يتخذ الكل من ساحة مسجد الحسين ملاذا رمضانيا بداية من توقيت الإفطار وحتى السحور. ويصبح البحث عن موطئ قدم غاية يصبو إليها زائر حي الحسين، بالذات في ليالي شهر رمضان الكريم. فهو المكان الذي يرتاده أهل القاهرة وزوارها بحثا عن النكهة الروحانية الرمضانية التي تتلاشى تدريجيا في أغلب البيوت والشوارع المصرية.

وعلى منطقة الحسين، ببازاراتها ومقاهيها وحوانيتها العتيقة ولا سيما في خان الخليلي، يتوافد أطياف من البشر من كل الطبقات الاجتماعية. فالأغنياء والفقراء على السواء يجدون ما يرضي أذواقهم في هذا الحي، فهناك مطاعم شعبية في الأزقة تعرض مأكولاتها في الشارع، وكذلك مطاعم فاخرة سياحية تقدم المأكولات أشهى المصرية والمشويات.

ورغم الزحام الشديد في شوارع وأزقة حي الحسين في قلب القاهرة القديمة، أو «القاهرة الفاطمية»، وصعوبة العثور على مكان لركن سيارتك، فإن البهجة التي تعم المكان تجعلك تشعر بأجواء احتفالية كرنفالية. فأهالي الحسين لا يعرفون طعم النوم في رمضان لأن ليلهم موصول بنهارهم.

ثم إن السير في شوارع الحسين ينطوي دائما على متعة خاصة، حيث يكون أحيانا «فسحة الغلابة» لكثيرين من المصريين، يتخلّصون فيها من هموم الحياة ووطأة الحر هذا العام. ويستمتعون بعروض «فرق التنورة» المنتشرة في أرجاء الحي الشعبي، وأداء عازفي الربابة والعود والمنشدين المنتشرين في كل مكان، بينما تجد تجمعات قوامها العشرات تتغنى وتنشد ألحانا تراثية على المقاهي.

والواقع أن الله وهب حي الحسين مذاقا مميزا، فإلى جانب الصلاة في مسجد الإمام الحسين، تقام يوميا ملتقيات إسلامية تحيي فيها الفرق الدينية حلقات للذكر. ولسنوات ارتبطت سهرات الحسين الرمضانية في ذاكرة المصريين بالاستماع إلى الأناشيد الدينية عندما كان الفنان عبده الحامولي يصعد فوق مئذنة الحسين وينشد بصوته الشجي. ولقد اعتاد أهل القاهرة القديمة على ذلك حين كانت تلك المئذنة بوابة الشهرة لعدد كبير من المنشدين، وعندما كانت تختلط أصوات المنشدين مع الباعة الجائلين المدللين على بضائعهم المختلفة من حلي وعطور وملابس شعبية مصرية وهدايا تذكارية.

متعة أخرى يمكن تجربتها هنا هي الجلوس في أحد مقاهي حي الحسين، وسط أكوام من البشر، لتدخين الشيشة أو تناول مشروب رمضاني يرطّب حرارة الجو مع الاستمتاع بالجلوس في الهواء الطلق. ومن أشهر المقاهي في الحسين، بلا شك، مقهى الفيشاوي الذي يعود تاريخه لمئات السنين ويمتاز بطراز معماري إسلامي فريد، وكان ولا يزال ملتقى المثقفين والسياسيين والفنانين من مختلف أنحاء العالم العربي.

وتعد متعة السير من حي الحسين حتى منطقة الأزهر حيث شارع المعز لدين الله، وهو الشارع الذي تحول إلى متحف مفتوح للآثار الإسلامية العتيقة، متعة للناظر لا مثيل لها لوجود عشرات الجوامع والمدارس والكتاتيب الإسلامية والبيوت والسبل والوكالات الأثرية، وكلها يعود تاريخها لمئات السنين، وتأخذك من عالمنا الحالي إلى العصور الفاطمية والمملوكية والأيوبية والعثمانية. ولقد زيّن هذا الشارع البديع بأنوار وإضاءات تجمع بين تجانس اللون الأحمر والأخضر والأصفر التي تعكس هيبة تلك الآثار وقيمتها.

ولا يجوز أن يغفل الزائر في هذه المنطقة عن تمضية أمسية ثقافية في أحد البيوت الأثرية، ومنها: بيت السحيمي، وبيت الهرواي وبيت الست وسيلة وقصر الأمير طاز، وما تخلقه لدى البعض من حالة رمضانية متميزة، ومنها الحرص على الاستمتاع بالعروض الثقافية المجانية في هذه البيوت، وأبرزها السيرة الهلالية. في حين تقدم «فرقة التنورة» عروضها الرائعة على مسافة قصيرة في وكالة الغوري.

جيداء الجاسر، من دولة الكويت، قالت لـ«الشرق الأوسط» لدى الالتقاء بها: «لا يمكن أن يمر شهر رمضان من دون أن أزور القاهرة، ولكن بالنسبة لي ولكل أفراد أسرتي رمضان يعني الحسين، وأنا أحرص على هذه العادة سنويا وأيضا أحرص على الصلاة في مسجد الحسين، وبعدها نظل حتى وقت السحور حين نتناول الوجبات المصرية اللذيذة».

أما نسمة عبد الله، من دولة الإمارات العربية المتحدة، فتؤكد أنها تحرص على الإقامة طوال الشهر الكريم في القاهرة، «فأنا أعشق القاهرة في رمضان، مذاق وسحر خاص، ويكفي أن البيوت كلها مزينة بالفوانيس وعناقيد النور. إنه أمر مبهج ويعكس دفء البيوت المصرية. ويوميا لا بد أن أكون في الحسين، ففي المطاعم والمقاهي هنا عبق تاريخي يسلب العقول».

ويقول عبادة الكومي، صاحب أحد دكاكين الإكسسوارات والتحف بالحسين: «رمضان شهر كريم، والحمد لله... قدومه كان خيرا على كل التجار بالمنطقة، فحركة البيع أفضل، كما أن السياح عددهم أكبر، وحلول رمضان في موسم الصيف جعل المصريين يخرجون ويستمتعون أكثر، لذلك الزحام هذا العام غير عادي».

أما محمد زبدية، صاحب مقهى «زبدية» بالحسين، فقال: «السهر حتى ساعات الفجر أصبح حالنا، وأصبحنا نغلق في الصباح الباكر، لكن معظم السياح الأجانب الذين يزوروننا في الصباح ويجدون المقهى مغلقا يأتون الآن في المساء. أما الطلبات فأكثرها يكون على المشروبات الرمضانية كالتمر الهندي والكركديه والعرقسوس والخرّوب، فضلا عن الشيشة بنكهاتها المختلفة».

وحقا، يجمع الحسين المصريين من شتى أرجاء مصر ومحافظاتها، وفيه تستمع لشتى اللكنات «القاهرية» و«الإسكندرانية» و«الصعيدية» و«البورسعيدية» وغيرها. وتقول ندى أحمد عباس، من الإسكندرية: «أحرص على تمضية ليلة رمضانية هنا في الحسين، إذ أسافر أنا وعائلتي ونعود بعد الفجر. أنا أعشق السير في أرجاء حي الحسين والتسوق فيه. منظر الفوانيس والإكسسوارات يفرح، والبضائع هنا لا حصر لها، كما أن مذاق الطعام هنا (بيتي) والكل يحرص على إرضائك بأي ثمن».

ويرى جايمي كلاوس، وهو مهندس معماري بريطاني، أن تناول الطعام في الحسين وفي أحد المطاعم الشعبية «تجربة لا مثيل لها»، متابعا: «الأمر يختلف تماما عن تناوله في أحد مطاعم الوجبات السريعة أو المطاعم الفاخرة في القاهرة. أنا أعشق الزحام والحالة التي يخلقها تناول الطعام في عرض الشارع مع الناس، كما أحرص دائما على التجوّل بين أزقة وحواري الحسين، وأتخيل مجريات الحياة فيها قبل نحو ألف سنة».

وكما تغنى المطرب علي الحجار: «صلّينا الفجر فين.. صلّينا في الحسين»، فإن صلاة الفجر في مسجد الحسين هي ما يحرص عليه عدد كبير من المصريين والعرب بعد أمسية رمضانية، وصباحا ينفضّ الزحام ويأخذ أهالي حي الحسين لأنفسهم قسطا من النوم ليواصلوا بعده يومهم الرمضاني المزدحم.