«التوثيق» العرفي تحول إلى سطو مسلح ضد بدو شمال سيناء

فتوى من دار الإفتاء المصرية حرمت الظاهرة التي تسببت في قتل كثيرين منهم

بدو شمال سيناءيعتمدون نظاماً قضائياً عرفياً جمالهم جزء منه («الشرق الأوسط»)
TT

«التوثيق» ظاهرة عرفية تنتشر في شمال شبه جزيرة سيناء، في مصر، كنوع من التنظيم لحل النزاعات بين القبائل. وقديما كانت تعني أنه في حالة حدوث مشكلة بين اثنين من بدو سيناء يطلب أحدهما من الآخر أن يحدد جلسة عرفية لحل النزاع بينهما، فإذا رفض الطرف الآخر أن يجلس معه لحل النزاع يبادر إلى أخذ الجمل الذي يمتلكه ويربط قدميه - ومن هنا جاءت تسمية «التوثيق» - ويقول الشخص الذي أخذ الجمل لصاحب الجمل عن طريق وسيط: «إنني اضطررت إلى أخذ جملك لإجبارك على حل النزاع، ولكي تتمكن من استرداده يتوجب عليك أن تجلس جلسة عرفية لحل النزاع بيننا.. ثم تأخذ جملك».

لسنوات كان ينظم «التوثيق» القضاء العرفي السائد في المنطقة. غير أنه تحول خلال السنوات الأخيرة إلى ما يشبه السطو المسلح، إذ ترك كثيرون من أبناء المجتمع البدوي في سيناء المغزى العرفي من «التوثيق» واتجهوا إلى تصفية الخلافات بعضهم مع بعض بطرق أخرى لا تمت إلى القانون العام ولا إلى القضاء العرفي بصلة. ومنها، مثلا، أن يقدم أحد أفراد العائلة التي لديها نزاع، وحتى الجد الخامس، على خطف سيارة الغريم تحت تهديد السلاح، وإجبار سائق السيارة على النزول منها والفرار بها. وكثيرا ما أدى هذا الأمر إلى مقتل الكثير من المواطنين حين كان خاطف السيارة يلجأ إلى استخدام سلاح آلي، وغالبا، عندما يحاول صاحب السيارة الهروب من غريمه يكون نصيبه رصاصة تودي بحياته.

ومع تفاقم الوضع، أصدرت دار الإفتاء المصرية مؤخرا فتوى بخصوص تحريم «التوثيق». واعتبرت أن هذه الأساليب في طلب الحقوق، أو الحصول عليها، «محرمة» شرعا، بل إنها معدودة من كبائر الذنوب. وأضافت دار الإفتاء في ردها: «نهيب بأهل سيناء أن يأخذوا على أيدي من يفعل ذلك، وأن يردعوهم عن غيهم، وأن يقفوا صفا واحدا ضد من تسول له نفسه ترويع الآمنين، أو أخذ الناس بجريرة أقاربهم أو معارفهم، أو التعدي في المطالبة بالحق أو تحصيله واستيفائه، وعلى الجميع أن يلتزموا بالأحكام الشرعية والقواعد العامة التي تنظم أخذ الحق والمطالبة به، حتى لا تنقلب الأمور إلى فوضى عارمة يصبح الخصم فيها حكما، وحتى لا تتحول مجتمعاتنا إلى غابة تضيع فيها الحقوق والمبادئ والقيم».

الفتوى استقبلها مشايخ القبائل في سيناء بالإعلان عن رفضهم لتنامي ظاهرة العنف واستخدام السلاح في النزاعات بين الأفراد. وطالب القاضي العرفي، يحيى الغول، بضرورة دعم دور الشيخ وتقويته لكي يتمكن من فرض السيطرة على أبناء القبيلة، وأن يصار إلى تعميم القانون المدني على الجميع، خاصة أن القضاء العرفي قد يحتمل الصواب والخطأ طبقا لوجهات النظر، وأن ظاهرة «التوثيق» انحرفت في تطبيقها، مما أدى إلى تزايد عدد المشكلات الناتجة عنها.

من جهته، يقول عبد الله جهامة، رئيس مجلس قبائل وسط سيناء، موضحا أنه سبق إقرار الاتفاقية العرفية والتوقيع عليها من قبيلتي «السواركة» و«الترابين» للتصدي لظاهرة «توثيق» السيارات وغيرها من الأعمال غير المشروعة. ولقد تضمنت بنودها الإشارة إلى أن على من ينوي القيام بعملية «التوثيق» إخطار شاهد أثناء مطالبته بالحق من غريمه وشاهد آخر من العشيرة التي ينتمي إليها الغريم. ومن ثم لا يصح أن تجري عملية «التوثيق» إلا من العشيرة نفسها التي يوجد معها خلاف، وفي حالة «التوثيق» من شخص من عشيرة أخرى تتبع القبيلة يغرم القائم بعملية «التوثيق»، وتوضع «الوثيقة» في منزل معروف حتى يمكن حلها عن طريق كفيل. وإذا لم يحدث ذلك يغرم صاحب «الوثيقة» - السيارة، مثلا - بما يوازي 4 أضعاف قيمتها، بالإضافة إلى حساب المسافات التي تحركت خلالها «الوثيقة» طبقا لقواعد القضاء العرفي المعمول بها.

هذا، ويذكر الشيخ حمدي جودة، أنه قبل عام 1967 كانت شبه جزيرة سيناء كلها محافظة واحدة، وكانت مقسمة إلى مناطق تسند مسؤوليتها إلى المشايخ، «كما كان كبير العائلة يعرف كل صغيرة وكبيرة ويستجيب له الجميع والأجهزة الأمنية». بينما يشير الشيخ سالم الغول إلى أن هناك «انفلاتا في النظام القبلي نتج عنه انتشار السلاح والانفلات الأمني، وما عاد شيخ القبيلة قادرا على السيطرة على جميع أفراد القبيلة، كما لم يعد كلام كبير العائلة مسموعا، مما أدى إلى زيادة المشكلات». وهو ما يدفع الشيخ حسن أبو منونة، إلى تأييد المطالبة بدعم دور الشيخ ومنحه الصلاحيات كاملة حتى يمكنه السيطرة على أفراد القبيلة، ويطالب بتعيين «مساعدين للشيخ لمساعدته في أداء مهامه وتحقيق الأمن والاستقرار في منطقته».

في هذا السياق، قال الدكتور حسام رفاعي، عضو المجلس المحلي لمحافظة شمال سيناء، لـ«الشرق الأوسط» إن العرف «كان آلية توصل إليها أبناء سيناء في ظل غياب الدولة من قبل، لكن (التوثيق) غدا الآن جريمة لا تتفق مع مفاهيم العرف أو القانون والشريعة. وهو ظاهرة سائدة بين متحصنين بقوة السلاح وآخرين من العزل، والجهات المعنية تقف مكتوفة الأيدي ولا تفعل شيئا، وبقية المواطنين حائرون بين الجهتين، سواء كانوا من البدو أو الحضر».

أما سامي سعد، مدير إدارة الاتصال وخدمة المواطنين بمحافظة شمال سيناء، فأوضح أن «انتشار السلاح بات ظاهرة تهدد أمن المحافظة واستقرارها، وأن استمرار ظاهرة (التوثيق) قد يؤدي إلى مشكلات كثيرة».