دمشق: جامع الدرويشية التاريخي أعيد إلى ما كان عليه قبل 450 سنة

يعد مع «جاره» السنانية من تحف العمارة العثمانية

جامع الدرويشية التاريخي في دمشق («الشرق الأوسط»)
TT

في أول أيام شهر رمضان المبارك هذا العام، أعيد فتح جامع الدرويشية التاريخي في قلب العاصمة السورية دمشق، بين طرفي «المدينة القديمة» و«المدينة الأحدث». وجاء فتح الجامع من جديد في أعقاب إنجاز وزارة الأوقاف السورية أعمال الترميم والإصلاح الواسعة فيه، بعدما استغرقت نحو السنتين. وهكذا، عاد الجامع مع بداية الشهر الفضيل لاستقبال المصلين وإقامة صلوات التراويح في حلته الجديدة وعمارته البهية وقببه اللامعة المميزة ومئذنته الباسقة الجميلة وسبيل مائه المزدانة بفن القاشاني الرائع، حيث أعيدت مفردات بنائه كما كانت عليه في زمن بنائه الأول قبل نحو 450 سنة، أيام الوالي العثماني درويش باشا.

يكتسب الدرويشية، وجاره القريب منه السِّنانية، أهمية كبيرة بين جوامع دمشق التاريخية، إذ إنهما يعتبران من أكملها معماريا، ومن الأجمل بين التي بنيت في العصر العثماني. ويقع الدرويشية قرب سوق الحميدية الشهير، بجانب باب الجابية التاريخي، في منطقة تجارية تكتظ عادة بالناس طيلة النهار وفترة المساء. ويعتبر مبناه نموذجا لفن العمارة العثمانية من حيث التخطيط والقواعد الهندسية والفنية. ولقد شيده درويش باشا بن رستم، أحد ولاة دمشق في العهد العثماني، الذي تصدر ولاية دمشق (979 - 982هـ) (1571 - 1579م)، ثم نقل إلى إسطنبول وتوفي بها عام 987هـ (1579م) وتم نقل رفاته إلى دمشق ودفن في قبره الذي أنشأه بجانب هذا الجامع.

أما تاريخ بناء الجامع فيعود إلى عام 982هـ (1574م)، كما هو مثبت في الكتابة التاريخية المنقوشة فوق الباب. وهي عبارة عن أبيات شعر، وكالعادة ورد التاريخ في البيت الأخير مرتبا على «حساب الجمّل». وروعي في بنائه أسلوب العمارة الرسمية للدولة العثمانية، الذي كان في قمة خصائصه الاعتناء بالمظهر الخارجي المتكامل للبناء. وحقا، جاء الجامع مستوفيا لتلك الشروط والأسس، مع أنه لم يخلُ من التأثيرات المحلية التي أسبغت عليه مسحة سورية.

صحن الجامع مستطيل الشكل، تتوسطه بركة حجرية مضلعة اثني عشرية، أما الرواق فيقع في جنوب الصحن، تتقدمه خمس قناطر محمولة على أعمدة مستديرة ذات تيجان وقواعد مختلفة. وتعلو الرواق خمس قباب صغيرة، وفي جداره الجنوبي محراب مزين بألواح القاشاني.

أما الحرم فعبارة عن قاعة كبيرة مستطيلة الشكل أبعادها 18 × 11.5م تغطيه سبع قباب مستديرة، تقوم القبة الكبرى بينها في الوسط. ويتوسط المحراب الجدار الجنوبي من الحرم، وهو يعد آية من آيات الإبداع الفني، وعلى جانبيه أطر هندسية عريضة من الرخام الأبيض والأسود. وأما المنبر فشيد من المرمر، وأهم ما فيه قبة الخطيب المبنية على أربع دعائم رشيقة، يعلو كل واحدة منها قوس مدبّب تكتنفه زوايا مزخرفة.

والملاحظ أن الزخارف الرائعة تزين الجامع من بابه إلى محرابه بأشكال وأنواع كثيرة، في حين شيدت المئذنة فوق المدخل، وقاعدتها بشكل مربع يتحول إلى مثمن لينتهي بشرفة مقرنصة ثم مظلة مخروطية من الرصاص. ويخالف شكل هذه المئذنة وأسلوب بنائها ما كان مألوفا في عصر بناء الجامع، ويرجّح المؤرخ عبد القادر ريحاوي أنها شيدت في زمن لاحق على الطريقة الشامية، في أعقاب تهدم المئذنة الأصلية. ويؤيد رأي ريحاوي ما ذكره ابن مرقة الحضار في كتاب «ولادة دمشق في حوادث سنة 1136هـ (1723م)»؛ حيث يقول: «تزعزعت منارة جامع الدرويشية وعمرت عمارة جديدة».

أما سبيل الجامع، الموجودة في الجدار الشمالي من مبناه، ولا تزال تقدم الماء للناس، فقد جرى ترميمها مع الجامع. وتتميز هذه السبيل - أي المسقى - بجمالها المعماري وواجهتها المزينة بألواح القاشاني التي تتوسطها لوحة مكتوبة بالخط التركي القديم شوهتها لوحة رخامية حديثة تشير إلى مجدِّد هذا السبيل.

على صعيد آخر، على مسافة غير كبيرة من جامع الدرويشية، في الجهة المقابلة منه في باب الجابية يقع جامع السِّنانية. وهو أيضا من أروع الجوامع المتبقية من العهد العثماني وقد عمل على تشييده الوزير الأعظم سنان باشا عام 999هـ - 1590م إبان فترة ولايته على الشام. وهو من أهم الوزراء والولاة العثمانيين الذين تركوا آثارا معمارية. وهذا الجامع نموذج لمعظم المساجد العثمانية، إذ يتألف من مئذنة وحرم وصحن وأروقة. والصحن هنا مستطيل الشكل له بابان: الأول هو المدخل الرئيسي للجامع ويقع في الجهة الغربية نحو شارع السنانية، وهو باب جميل يعلوه لوح مستطيل من القاشاني الأزرق عليه صور نباتية متشابكة، بينها أبيات شعرية، ويعلو لوح القاشاني مقرنصات جميلة. أما الباب الثاني فهو في الجدار الشمالي، ويعلوه من الداخل نقش مزولة شمسية، وفي الطرف الغربي من الجدار الشمالي توجد لوحة مستطيلة تتألف من قطع القاشاني الأزرق والأخضر تزينها صور نباتية وأوراق وأزهار متعانقة بينها قاشاني أبيض عليه كتابة باللون الأسود بخط نسخي كبير، تشير إلى تاريخ الجامع واسم الباني. وتتوسط صحن الجامع بركة مثمنة الشكل مبنية من الحجارة الكلسية، أما بلاط الصحن فهو من الحجارة المصقولة البيضاء والسوداء، التي وضعت بأشكال هندسية جميلة تتخللها قطع كبيرة من المرمر الأحمر والأبيض والأسود في الجهة الجنوبية وبأشكال هندسية. أما الرواق فمسقوف بسبع قباب، ويتقدم الحرم، وهو على ستة أعمدة. ويوجد محراب صغير ذو عمودين من الرخام الأبيض في الجهة الشرقية من الرواق، وفوق هذا المحراب توجد لوحة كتابية من ستة أبيات شعرية. وأما الحرم فمستطيل الشكل ومسقوف بقبة كبيرة تتخللها نوافذ جميلة، وكتابات رائعة وأعمدة رشيقة. والمنبر من المرمر الأبيض المحفور، والمحراب ترسمه قطع المرمر متعددة الألوان الدقيقة الصنع. وتعلو المحراب لوحة مستطيلة من القاشاني الأزرق عليها كتابة قرآنية. وفيما يتعلق بمئذنة الجامع فإنها مستديرة مبنية بالحجارة، تكسوها من الخارج طبقة من الآجرّ المطلي بطبقة من القاشاني الأخضر (الخزف الزنجاري)، يفصل بينها ثلاثة خطوط من القاشاني الملون بالأزرق. وتعلو جذع المئذنة مقرنصات بسيطة وجميلة، ثم يليها تاج المئذنة. ولقد زال لون القاشاني في بعض الأماكن من المئذنة، ولا يوجد في سورية ما يماثل هذه المئذنة من حيث الطبقة القاشانية التي تكسو سطح جذعها الخارجي.