الصحون اللاقطة باتت تشكل غابة معدنية فوق دمشق

مصدرها سوق «السويقة» والحداد أبو أحمد الطهاوي أول من أدخلها إلى سورية

الدمشقي الطهاوي أول من ركب ستالايت في دمشق وسورية («الشرق الأوسط»)
TT

الناظر إلى دمشق وهو يحلق بالطائرة أو من مكان عال كجبل «قاسيون» ستدهشه، بلا شك، عشرات آلاف الصحون اللاقطة التي تملأ أسطح البنايات حتى باتت تشكل غابة معدنية فوق هذه الأسطح. وهذا المنظر بالتأكيد لم يكن سيشاهده هذا الشخص لو كان في الطائرة أو في مكان عال قبل منتصف تسعينات القرن الماضي، الفترة شكلت علامة فارقة لدمشق ومعها جميع المدن السورية وحتى الأرياف حيث انتشر وبكثرة الستالايت. وكانت الصحون في البداية ذات أحجام كبيرة تصل إلى المترين حيث القاعدة التي أقنع بها فنيو الدشات زبائنهم تقول إنه كلما كبر الصحن زاد عدد القنوات الفضائية والأقمار التي يستطيع التقاطها. ولتنتهي هذه القاعدة قبل سنتين مع ثبوت العكس ولتبدأ إجراءات جديدة أخرى انطلقت قبل عدة أشهر من قبل محافظة مدينة دمشق بتحويل كل هذه الصحون على البنايات إلى مجرد ذكرى ومخلفات معدنية مع قرارها بإلزام كل بناء يزيد على الثلاثة طوابق بتركيب صحن مركزي واحد.

وتبرر المحافظة قرارها هذا بالتشويه البصري الذي أحدثته كثرة الصحون اللاقطة لنسيج دمشق المعماري، فكان لا بد من الحل لإعادة جماليات الأسطح وجعلها بمشهد معماري وبصري جميل.

ولكن رُب سائل وهو يشاهد كل هذه الصحون اللاقطة يسأل: من أين يأتي بها الدمشقيون؟!.. سؤال سيتلقى رده تلقائيا وهو يزور سوق «السويقة» القديمة التاريخية التي تتوسط مع حارتها السكنية القديمة العاصمة السورية دمشق وتوضع في منطقة مكتظة سكانيا وذات حراك تجاري واقتصادي. فهذه السوق التي اختصت منذ إنشائها قبل 400 سنة ودعيت بـ«السويقة» كتصغير لكلمة «سوق» تخصصت بتصنيع دلال القهوة النحاسية للمضافات والمنازل كما تخصصت بصناعة الآراكيل ومفرداتها ومكوناتها الزجاجية والمعدنية، ولكنها وفي تسعينات القرن الماضي انقلبت سوق «السويقة» رأسا على عقب مع تحول معظم محلاتها وورشها نحو تجارة وبيع وتركيب الستالايت والصحون اللاقطة، فأصبحت «السويقة» تعرف بسوق الستالايت وصارت مقصد الجميع من أهالي حارات دمشق وحتى المدن السورية الأخرى الباحثين عن فني خبير يركب لهم ما يحتاجون إليه من تكنولوجيا الاتصالات.

معظم محلات السوق تضع الصحون المعدنية اللاقطة أمامها دلالة على تخصصها. المفاجأة كانت عندما دخلنا بعض الدكاكين وكان الكل يشير إلى محل وورشة مميزة بصاحبها ويحثوننا أن نلتقي صاحبها. عندما عرفنا بنفسه، بأنه أول شخص وحرفي دمشقي يدخل الصحن اللاقط للقنوات الفضائية إلى دمشق وسورية بشكل عام، وذلك من ألمانيا قبل عشرين عاما، وأنه الشخص الأول الذي خصص محله في «السويقة» لبيع وتركيب الدشات، فحث فيما بعد الآخرين على تقليده وتحويل محلاتهم إلى الاختصاص نفسه، فكان السبب في تحويل السويقة من سوق شعبية بسيطة تنتشر فيها الورش النحاسية اليدوية وورش الآراكيل مع وجود محلات أخرى لبيع المنتجات الغذائية وعدد محدود من المطاعم والمقاهي. إنه الدمشقي أبو أحمد الطهاوي الستيني المنهمك بنشاط وهمة الشباب في برمجة مخدمات القنوات الفضائية في محله، الذي تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن مغامرته الأولى في إدخال الصحن اللاقط إلى دمشق قائلا: «عملي الأساسي كان حدادا ولدي ورشة هنا في (السويقة)، وفي عام 1991 كان هناك عرض في ألمانيا لبيع صحون مع إبر ومخدم ريسيفر بسعر زهيد فجاء إلى دمشق أحد أصدقائي كان يقيم في ألمانيا ومعه الصحن والمخدم وسألني إن كنت أعرف تركيب هذا الصحن في منزله، فقلت له لا يوجد لدينا خبراء في هذا المجال، خاصة في طريقة استقبال الإشارة، ولكن مع ذلك سأغامر وأركبه لك، وبالفعل ركبته له ولكن اعترضتنا مشكلة عدم معرفتنا بكيفية وضع الإبرة المستقبلة في مكانها الصحيح، فاستعنت بخبراء من لبنان حيث إنهم أقدم منا في هذا المجال، فقاموا بالفعل بتعليمنا كيف تركب الإبرة وصرنا منذ ذلك التاريخ نعتمد على أنفسنا في هذا المجال».

وفي عام 1992 تحولت سوق «السويقة» إلى سوق للدشات، وقد توزع أصحاب المحلات فيها حيث يصل عددها إلى نحو 100 محل منقسمة إلى ثلاث فئات، وهي مصنعو الصحون المعدنية، وهؤلاء لديهم ورش حدادة كبيرة وحرفيون يعملون على تصنيع مختلف أنواع وأحجام وأشكال الصحون من معدن الحديد وكانوا في البداية يصنعون الصحون بشكل يدوي بالكبس، مثل تصنيع الصاج المعدني لطهي الخبز عليه ومن ثم تطور الأمر معهم وصاروا يصنعونه على ماكينات كبيرة مع تقعير الصحن وتطور الأمر حاليا بشكل أفضل، حيث صاروا يصنعون الصحون بطريقة متطورة تشابه الطريقة الأوروبية حيث تعتمد نظام الأوفيس. وهناك فئة المسوقين مع تقديم خدمات البرمجة للزبون من قبل فنيين لديهم. وأيضا فئة المستوردين.

ويشرح الطهاوي المراحل التي مر بها تركيب الصحون في دمشق قائلا: «كنا في البداية نعتمد على الصحن الكبير لأن الاستقبال كان ضعيفا، ولكن عندما زادت مساحة البث وقوي الاستقبال صغر الصحن اللاقط». وأضاف أن أرباح أصحاب المحلات في «السويقة» كانت جيدة ولكنها تأثرت سلبا مع قرار المحافظة بتركيب صحن واحد في كل بناء، «فبينما كنا نركب مثلا عشرين صحنا لبناية واحدة تضم عشرين شقة، صرنا حاليا نركب صحنا واحدا، ألا يعني ذلك أن أرباحنا انخفضت ودخلنا قل فتحولنا إلى مهنة عادية غير مغر الدخول إليها؟! القرار ألزمنا بتركيب مجموعة مركزية تعتمد نظاما مركزيا استخدمنا فيه في البداية نظام شناو الألماني، ولكن صارت هناك حاليا خيارات أخرى متنوعة، ومنها الصيني والتركي التي تعتمد نظام القطع».

في منطقة وسوق «السويقة» الكثير من الأبنية التاريخية التي تدل على عراقتها، ومن أبرزها «جامع النقشبندي» الذي بناه الوالي العثماني مراد باشا سنة 1568 أيام السلطان سليم الثاني على الطراز العثماني المجدد لفن العمارة.

وإلى جانب أحد مباني «السويقة» التاريخية كان يجلس أحد أبناء المنطقة، وهو محمد خير البيش (64 عاما)، حيث تحدث عن حارة «السويقة» وسوقها قائلا: «أنشئت الحارة خارج سور المدينة القديمة في العهد المملوكي وسميت بـ(السويقة) لأنها كانت محطة لرواد دمشق القادمين من الأرياف والبادية، حيث يعرضون بضاعتهم في ساحاتها فسموها السويقة».

ويستعرض البيش المراحل التي مرت بها منطقته في العصر الحديث قبل أن تصبح سوقا مركزية للستالايت، حيث كانت في ثمانينات القرن الماضي مركزا لبيع لحوم الغنم البلدية والمستوردة (سوق جملة) قبل أن يتم نقل القصابين إلى سوق «الزبلطاني» الجديدة شمال دمشق. ومن المباني التاريخية في «السويقة» هناك جامع ومقام «الشيخ حسن»، ومن حارات منطقة السويقة المعروفة هناك حارة تسمى «المغاربة» سكنها منذ القدم أناس من المغرب العربي هاجروا إلى دمشق وسكنوا هذه الحارة المتفرعة عن منطقة السويقة.