«الفِركة».. زي فرعوني يتباهى به الرجال والنساءعلى السواء

توارثت صناعتها الأجيال وتقاوم الغزو الصيني

أحد صناع الفِركة يشد النسيج على خشب النول ليخرج ثوبا جميلا من الحرير أو القطن («الشرق الأوسط»)
TT

الفِركة (بكسر الفاء) صناعة يدوية مصرية يرجع تاريخها إلى الفراعنة، وهي عبارة عن خيوط مصبوغة من الحرير أو القطن تُصنع منها أشكال مختلفة من الأقمشة، أشهرها «الملايات الحريمي» (رداء ترتديه النساء في صعيد مصر والدول الأفريقية)، والشال (يضعه الرجال على الكتف كنوع من الزينة أو حماية من برودة الشتاء)، وبعض أنواع الأقمشة الأخرى.

تعتمد صناعة الفِركة على النول اليدوي (مجموعة أخشاب مصفوفة بطريقة منظمة تصف عليه الخيوط)، وتركيبه لم تختلف من أيام الفراعنة حتى الآن، كما أشار إلى ذلك عدد من النقوش الفرعونية، ويعمل عليه النوال «صانع الملايات»، الذي تكون لديه خبرة جيدة في عمليه صف الخيوط والتعامل مع النول.

ارتبطت الفِركة بمدينة نقادة بمحافظة قنا، ولا تزال حتى الآن تشكل مصدر الرزق الأساسي لمعظم العائلات النقادية، كما تعد مصدرا رئيسيا للملابس، بخاصة ملابس النساء، وفي الوقت نفسه كانت مصدرا متميزا للدخل القومي، حيث تعد نقادة المصدر الوحيد على مستوى العالم لهذه الصناعة الفريدة التي ورثوها عن أجدادهم الفراعنة واحتكروها بحرفيتهم ومهارتهم فيها، فضلا عن أن هذه الحرفة وفّرت ما يقرب من 3000 فرصة عمل في نهاية القرن الماضي.

وحول أصل حرفة الفِركة يقول الطيب أديب الباحث في التراث الشعبي: «إنها عبارة عن منسوجات مصنعة من الخيوط القطنية المصبوغة، أشهرها (الملايات) التي ترتديها نساء الصعيد والبلاد الأفريقية، والفِركة ترمز إلى البركة والحظ لدى أبناء الجنوب، وقد اشتهرت مدينة نقادة بمحافظة قنا بحرف تراثية كثيرة، كالفخار والحصر والأسرّة المصنعة من جريد النخيل، لكن الفِركة كانت من أكثر الحرف شهرة في نقادة لدرجة أن مدينة نقادة ارتبط اسمها بحرفة الفِركة زمنا طويلا في مصر والعواصم الأفريقية، فقد لاقت (الملاية) النقادية شهرة واسعة الآفاق، خصوصا في العواصم الأفريقية، كالخرطوم ونيروبي وأديس أبابا وغيرها، حيث تتهافت عليها النساء الأفريقيات لاعتقادهن أن هذه (الملايات) تجلب الحظ والبركة، وتضفي عليهن قدرا كبيرا من الوقار والحشمة وهن يقمن بلف هذه (الملايات) حول أجسادهن الفارهة، حتى إن العروس الأفريقية كانت تشترط على عريسها تقديم عدد معين من هذه (الملايات) ضمن جهازها قبل الزفاف. وكانت فترة نهاية السبعينات والثمانينات من القرن الماضي عصرا ذهبيا لفركة نقادة، إذ كانت تدر ما يعادل أربعة ملايين دولار عليها وعلى وقراها التي احتكرت المنتج».

أما محمد فواز، مدير تسويق، فيرى أن الفِركة هي صنعة الستر لأنها تستر ولا تغني، وكان يعيش على دخلها معظم العائلات، وتتميز بأنها صنعة عائلية تمارسها الأسرة بجميع أفرادها في المنزل الريفي، المبني من الطوب اللبِن، ويقدر عمر هذه الصناعة بآلاف السنين، فجذورها تمتد إلى الفراعنة، ويقال إنها كانت عقوبة تطبق على المحكوم عليهم بالسجن أو الإعدام أيام الفراعنة نظرا لمشقتها وجلوس الصانع على النول لساعات طويلة. وأما عن «الفِركة السودانية فقد ارتبطت الفِركة بالسودان لأن دولة السودان كانت من أكثر الدول التي تستورد منتجاتها من مصر حتى الثمانينات من القرن الماضي، وكانت حصيلة التصدير لدولة السودان تصل سنويا إلى مليوني دولار».

ويضيف فواز: «لكن الفِركة المصرية بدأت تعاني وبشدة من المنافسة الشرسة من قبل المنتجات الصينية والهندية التي تلعب على وتر السعر، فالصين والهند لم تكتفيا بتصدير الخيوط المصبوغة لمصر، بل قاموا بتصنيع وإنتاج مختلف الأقمشة و(الملايات) الصعيدية التي تنتجها الورش المصرية، وصدروها لنا بأسعار زهيدة، لكنها ليست بكفاءة المنتج المصري الذي ظل لقرون طويلة سيد الموقف في الدول الأفريقية».

أما حسيب متولي، تاجر جملة لمنتجات الفِركة، فيرى أن هناك نقطة ضوء للمنتج المصري، فالدولة فتحت الباب أمام تجار الفِركة لتسويق منتجاتهم بالمدن السياحية مثل الأقصر وأسوان والغردقة وشرم الشيخ، وأغلب السياح يقبلون على المنتج المصري لأنهم يقدرون قيمته، فهم يبحثون عن الجودة قبل السعر، وقد بدأت أغلب ورش الفِركة تماشيا مع التطور بإنتاج أشكال مختلفة من الأقمشة تتناسب مع احتياجات السياح الأجانب.

وعن مراحل صناعة الفِركة يقول ناشد تاوضروس، نوّال (صانع فِركة): «تمر صناعة الفِركة بعدة مراحل، تبدأ بصبغ الخيوط بألوان مختلفة وجمعها على دواليب يدوية صغيرة، وصفّها على النول اليدوي بطريقة هندسية متوارثة عن الأجداد، ويجلس النوّال أمام النول، يمد قدميه أسفل حفرة النول، يحرك الجزء السفلي من النول، ويستخدم كلتا يديه في عملية شد المضرب من أعلى لضم الخيوط المصفوفة بعضها إلى بعض، وعندما تنتهي الخيوط المصفوفة بجوار بعضها يكون بذلك انتهى من تصنيع أول (ملاية) فيقوم بقطعها، والبدء في تصنيع غيرها، وفي نهاية اليوم يقوم النوال بتسلم أجره من صاحب النول ويكون الأجر على عدد (الملايات) التي قام بصنعها».

ونظرا لأهمية هذه الصناعة وكونها تراثا إنسانيا، قامت الدولة ممثلة في محافظة قنا باتخاذ عدة إجراءات من شأنها الحفاظ على هذه الصناعة القديمة من الاندثار لأنها تعتبر جزءا أساسيا من الهوية الفرعونية، وفي نفس الوقت تعد مصدرا متميزا للدخل لهذه المنطقة التي كانت تقوم بتصدير منتجاتها لمعظم دول العالم، ومن أهم هذه الإجراءات إقامة مراكز تدريب للشباب والفتيات للعمل بهذه المهنة بعد ذلك، مع توفير الاحتياجات اللازمة لهم.

وقد حظيت صناعة الفِركة باهتمام إعلامي كبير من قبل القنوات المحلية والفضائية والصحف، بالإضافة إلى الباحثين في التراث الشعبي والذين أصبحوا ضيوفا دائمين على مدينة نقادة للبحث والتنقيب عن أسرار هذه المهنة، التي ما زالت تقاوم من أجل البقاء.