مشروع تطوير تراثي في «قصر العظم» بمدينة حماه

يماثل قرينه الدمشقي.. ويعد من أجمل القصور التاريخية السورية

قصر العظم الحموي («الشرق الأوسط»)
TT

في نهاية زقاق قديم يدعى «الطوافرة» يكاد كل حجر فيه ينطق بما كان عليه التاريخ قبل آلاف السنين في مدينة حماه السورية، وبجوار ثلاث من أجمل نواعيرها الخالدة وأوابدها التاريخية، هي الجعبرية والصاهونية والوسطى وجارها الأزلي جامع النوري التاريخي، يقع قصر أسعد باشا العظم.

في هذا الزقاق، وعند هذا الموقع، يشعر الزائر وكأنه في حلم أندلسي. ألم يصف أمير الشعراء أحمد شوقي مدينة حماه عندما زارها بأنها «مدينة أندلسية»؟

هنا يعيش المرء هدوءا ريفيا، حيث لا صوت لمحرك سيارة أو ضجيج لأناس يزدحمون للتسوق. وهنا أراد الوالي العثماني أسعد باشا العظم قبل 250 سنة بناء قصر فخم يماهي به جماليات المكان. وحقا باشر بناءه قبل بناء قصره الأشهر، قصر العظم الدمشقي، الذي أنجز تشييده عام 1749م، وكان له ما أراد. إذ شيد القصر الحموي على نمط القصور والبيوت الشامية التقليدية بثلاثة أقسام، ولكن بثلاث مراحل وفترات زمنية، وعبر عهود خلال ثلاثة ولاة. فقد شيد أسعد باشا العظم قسم الحرملك عام 1740م، ومن بعده شيد الوالي نصوح باشا العظم قسم السلاملك عام 1780م، ثم شيد الوالي مؤيد باشا العظم الحمام بين السلاملك والحرملك وأضاف بعض المنشآت المعمارية على قسم الحرملك وذلك بعد خمسين سنة، أي في عام 1830م.

ومع الإنجاز الأخير تحول القصر، الذي كان سكنا لولاة حماة العثمانيين ومقرا للحكم، إلى تحفة معمارية فريدة. وجاءت قاعاته بطابقين، وضمت أجمل الزخارف الهندسية والنباتية. كذلك ضم القصر باحات وبرك مياه رائعة الجمال تطل عليها الأشجار بمنظر بديع، وخاصة، شجرة الماغنوليا العطرة التي ما زالت رابضة بقوة في باحة القصر الرئيسية منذ 125 سنة، إذ زرعت كغرسة عام 1885م، وبارتفاع يصل لخمسة عشر مترا، ناثرة على الزوار الروائح العطرة وخاصة في فصل الربيع حين تتفتح أزهارها البيضاء الجميلة.

لقد حافظ قصر العظم الحموي على عمارته الجميلة خلال القرن العشرين، وتحول في منتصفه، تحديدا عام 1956، إلى متحف وطني ضم عددا من الأجنحة التي تخصصت بعرض اللقى الأثرية المكتشفة في منطقة حماه والعائدة لمختلف الحقب التاريخية. وظل المتحف يستقبل زواره حتى نهاية القرن الماضي. فمع افتتاح المتحف الجديد بمبناه الحديث، شمالي المدينة، قررت مديرية الآثار والمتاحف السورية تحويل قصر العظم إلى متحف خاص بالتقاليد الشعبية الحموية حصرا، وكانت هذه كانت تشغل جناحا واحدا فقط فيه، إلا أن المديرية وضعت أيضا مشروعا واسعا لتجميل القصر وتوظيفه بالشكل المناسب ليقدم قراءة شيقة لعادات حماه القديمة وتقاليدها. وأنجزت أخيرا ترميم أجمل قاعات القصر، وهي المسماة «قاعة الذهب» في مشروع استمر طيلة العام الماضي والنصف الأول من العام الحالي، وجرى خلاله إعادة تلبيس القاعة بالحجر المطعم والرخام الملون وبأعمال الزخارف النباتية والهندسية والخط العربي والعجمي.

وحاليا، لدى دائرة آثار حماه مشروع جديد جار تنفيذه حاليا في قصر العظم من المقرر أن يكتمل في منتصف العام المقبل، وهو يتضمن توظيف قاعات القصر وأجنحته بما يتلاءم وتاريخه العريق وجمالياته المعمارية. وحسب الخطة الموضوعة ستوظف إحدى قاعاته لتقديم بانوراما لصناعة النواعير المائية، التي تشتهر بها مدينة حماه، من خلال عرض مجسمات لمراحل بناء وترميم الناعورة التي يتولاها حرفيون ومتخصصون من دائرة النواعير في بلدية حماه يعملون على صيانة الجسم الخشبي (الدولاب) الكبير وترميمه وتصنيع أقسامه. وهناك اختصاصيون أثريون يعملون على ترميم الجسور والمنشآت الحاملة للنواعير.

ثم، ضمن المشروع أيضا، ستوظف قاعة ثانية في القصر لعرض أفلام فيديو تقدم معلومات مصورة للزائر والسائح عن محافظة حماه وتاريخها وجغرافيتها وأوابدها الأثرية ومعالمها السياحية. وثمة قاعة أخرى ستضم خرائط ومخططات لمدينة حماه القديمة ولحي الطوافرة العريق، وستخصص كبرى قاعات القصر لعرض الصناعات والحرف التقليدية الحموية والأزياء الشعبية التي ضمها القصر منذ تحويله إلى متحف وطني في البداية، ومن ثم إلى متحف للتقاليد الشعبية، وستضاف للمعروضات مقتنيات جديدة من التراث الحموي.

وحقا، في جولة بقصر العظم في حماه، ستأسر الزائر روائع فنون العمارة والزخرفة الموجودة في هذا القصر البديع، الذي يتميز أيضا بقبته الحمراء المطلة على عدد من المواقع الأثرية المجاورة للقصر. ومن هذه الروائع «الإيوان» الذي خصص لجلوس الوالي وعائلته وزينت واجهته بأجمل الزخارف النباتية والحروفية، ومنها قصيدة شعر كتبت بشكل جميل قبل مائتي سنة، تنتهي ببيت شعر يقول:

«أخي اشرب هنيئا ثم أرخ بمائي بركة حسنت مزاجا» وفي الطابق العلوي من القصر، الذي يصعد إليه بسلم حجري هناك باحة واسعة تشبه الباحة السفلية مع بركة ماء ونافورة جميلة، وفي هذا الطابق توجد مجموعة من الغرف والأروقة المزدانة بالزخارف النباتية والكتابية وبالحجارة الملونة المعشقة بالجص والأشرطة المحفورة بالحجر. كذلك في الطابق العلوي «القاعة الذهبية» التي تلخص بزخارفها في الجدران والأسقف والقبة والمقرنصات كل مفردات جمال العمارة العربية التقليدية ومهارة الفنان والمهندس الذي أبدع كل تلك المكونات الجمالية. وهناك «الإيوان الشمالي» الذي يتميز ببلاطه الخزفي ذي اللون الأزرق، المنفذة لوحاته بأسلوب القاشاني الفني المعروف. وقد زخرفت جدران هذا الإيوان بقطع من الرخام الجميل نقشت عليها بعض الأحاديث النبوية الشريفة، وزينت نوافذه بـ«الشمسيات» وهي شبابيك مصنعة من الجص مع الزجاج الملون. وتوجد في قسم السلاملك غرف جميلة جدا منها ما زخرف بـ«البروكار» الحريري باستخدام مواد العجمي على شكل كورنيش. ولعل من أجمل غرف القصر أيضا «الغرفة الشرقية» التي تزدان مع شرفتها بزخارف عبارة عن لوحات فنية بمزيج من الأزهار والثمار المرتبة في أطباق، كما يلاحظ في سقف الغرفة زخارف متأثرة بالطابع الأوروبي الذي كان منتشرا في القرن الثامن عشر الميلادي، و«الغرفة العربية» التي لا تقل روعة عن شقيقتها «الشرقية» وتتميز عنها بوجود صورتين جداريتين تاريخيتين تمثل الأولى قلعة حلب والثانية ميناء القرن الذهبي في إسطنبول، كما تتميز هذه الغرفة بوجود شرفة مطلة على باحة الحرملك السفلى مواجهة لشجرة الماغنوليا العطرة.